يتبارك الموحدون الدروز، كل سنة، بليالي العشر الروحانية، وذلك قبل أن تحلّ أيام عيد الأضحى المباركة. وليالي العشر هي عبارة عن فترة ترويض للنفس، وعن برهة إعداد وتأهيل لتقبّل عيد الضحى المبارك، هذا العيد الذي يمثل في عُرف الطائفة الدرزية، منتهى التضحية والغفران، وحساب النفس.
ففي كل سنة، وفي مجريات أيام السنة العادية، يعمل الإنسان ويكد ويكدح، ويمارس حياته منشغلا بهمومه العائلية، وبمشاكله الحياتية، وبتحقيق أمنياته وطموحاته، والالتزام بواجباته وتعهداته، ولا يفكر، أحيانا بسبب خضمّ الواجبات، وأعباء المعيشة، بمهمة الحياة، وبالهدف من الوجود، وبسر الكينونة، وبعُمق المصير الإنساني، في هذه الدنيا الواسعة. لذلك، جاء عيد الأضحى المبارك، كي يتوقف عنده كل مؤمن، وكل فرد، وكل إنسان، وقفة تأمل وتطلع وتعلم وتحقق وتحسب، ليرى أهو سائر في الطريق الصحيح، وما هي أخطاؤه، وأين كان تقصيره، وماذا حقق من إجازات. وهناك المشايخ والمتدينون، الذين يذهبون ابعد من ذلك، ويستغلون هذه الفرصة، في إجراء حساب عسير وقاس ومشدد، على أنفسهم وعلى أهوائهم ورغباتهم ومواطن الضعف فيهم، بحيث يستمدّون من أيام العيد المباركة، طاقة جديدة، وقدرات إضافية، لكي يقوموا بأعبائهم وواجباتهم لسنة كاملة.
فعيد الأضحى، هو العيد والبهجة والفرحة بلقاء الأهل والإخوة والأصدقاء، وهو الفرصة لتجديد القوى العقلية، ولترويض الأفكار القدسية، ولتعزيز الخواطر العقائدية، ولتطبيق الفرائض المذهبية، وللتمتع بالأسرار والقدرات الباطنية العميقة .وكلما كان التأهل أثناء ليالي العشر المباركة غزيرا، كلما كان الاشتراك فيها عميقا وصادقا، وكانت البهجة بالعيد أكثر، والانتفاع ببركاته أكبر. فليالي العشر هي المفتاح، وهي المؤشر، وهي المقدمة، وهي العنوان. وفي هذه الفترة تتكرر زيارات المؤمنين يوميا للخلوات، ويسود جو من الفخار والإنتعاش، ومن الشعور بحياة قدسية عامرة، فأنت ترى أن جميع المتدينين الذين لا تسمح لهم ظروفهم أن يحضروا للخلوات خلال السنة، يواظبون على زيارة الخلوات والاشتراك بالمراسيم كما يجب، كما تجد العشرات من الشباب والبنات الذين لم يلتحقوا بعد بصفوف الدين، يقومون بالتبرك بالاشتراك بالسهرات الدينية العارمة، وفي هذه الليالي والأيام المباركة، يخطط أولائك الشباب والبنات الذين يرغبون في الالتحاق بصفوف الدين، أن يبدأوا قدومهم إلى الخلوات، لطلب صفو خاطر المشايخ، كما هو متبع، من أجل تسليمهم الفروض الدينية، بحيث يصادف تسليمهم الدين، أثناء ليالي العشر، وذلك زيادة في البركة والتقوى والإيمان.
لذلك نجد أن ليالي العشر هي أيام مصيرية، ولها كيانها ووجودها، وفيها تتم فروض كثيرة. والمتشددون من أبناء الطائفة، يقومون بأداء فريضة الصوم، وذلك حسب فلسفة منهج التوحيد الدرزي، الذي يمنح موضوع الصوم أبعاد أعمق وأكثر، لهذه الفريضة النبيلة التي تمارسها عادة كافة الشعوب، من منطلق العقيدة والإيمان بجدواها وفائدتها.
فالصوم عند الموحدين الدروز، هو عبارة باقة كبيرة أنيقة شاملة، من الفروض والواجبات والالتزامات، لكي يبلغ الإنسان الصائم، منتهى درجات ترويض النفس والعقل والقلب والجسم، لكي يستطيع أن يستوعب الروحانيات المغروسة في التعاليم المذهبية. وهناك من يعتقد أنه يمكن أن يؤدي واجبه بالنسبة للصوم، إذا امتنع عن المأكل والمشرب في ساعات معينة فقط. وهذا أمر جميل ووارد، لكنه لا يفي الإنسان إلا ذرة من الأجر والثواب المطلوب. فالصوم له مسارات ومسالك كبيرة ومتشعبة، نأمل أن يعيننا الله، أن نستطيع أن نشرح بعضها في هذه العجالة في هذا المقال.
الصوم عند الموحدين الدروز يشمل الأمور التالية:
1- صيانة البطن من أكل الحرام، ومن الأمور المشبوهة، وترويض الجسم على الاكتفاء بالقليل، وتقبّل الموجود والمتوفِّر، وعدم الركض والسعي وراء البذخ والصرف والتبذير، من أجل إشباع الشهوة الجسمانية، والرغبة الطبيعية في الأكل، والتلذذ بمختلف أصنافه وأنواعه، وما هو متوفر في الأسواق من مأكولات، تزيد في الشهية، ولها مضار وأبعاد ومشاكل صحية ومادية واجتماعية. فالعالم غير مكوَّن من طبقة واحدة، والناس يختلفون ويتباينون بأوضاعهم الاجتماعية وقدراتهم الاقتصادية، وما يستطيع أن يجنيه أحدهم، لا يمكن أن يحصل عليه الآخر. وكثيرا ما تبرز هذه الفروق بين الناس، وتسبّب إلى عقد وإلى مشاكل وإلى حزازات وخلافات، الجميع في غنى عنها. فاقتصار المؤمن على الضروري والموجود والقليل، من المأكل والمشرب والحلوى، فيه فائدة له ولأسرته ولمجتمعه وللبيئة التي يعيش فيها. وهذه هي أول درجات الصوم، وأبسط أنواعه، وأكثره شيوعا. وحبذا لو يظل منتشرا عند جميع الشعوب والطوائف، لكنه لا يكفي.
2- صيانة الجسم من الأشرار والتجاوزات والاستعمال السيئة لوظائف الجسم المختلفة، التي خلقها الله سبحانه وتعالى، كي يستعملها الإنسان من أجل الكمال. وقد قام معلمنا وسيدنا الأكبر، الأمير السيد (ق) بشرح هذه الأمور في تعاليمه، بشكل جميل، حبذا لو رجع إليها كل مؤمن، كي يستفيد من تلك التعاليم، ويتقيّد بها، لتصبح حياته أفضل. وهنا نوجز هذه التعاليم بشكل سريع، لمجرد التذكير والإشارة فقط، فنقول إن في الجسم الجوارح السبعة وهي:اللسان، والعين، والأذن، والرجل، واليد، والبطن،والفرج. وهذه الأعضاء هي التي تربط الجسم البشري مع بيئته ومع محيطه، وهي التي تكوّن علاقاته الاجتماعية والأخلاقية والأهلية وغيرها، وأي استعمال سيئ لهذه الأعضاء، فيه خلل وفيه شذوذ وانحراف عن المسار الصحيح، الذي وضعه الخالق، سبحانه وتعالى للإنسان. فالإنسان يجب أن ينطق بالخير، وأن يلهج بالمدح والثناء، وان يتجنب النميمة والإساءة والتحريض والتشهير والكلمات البذيئة وغير ذلك من الموبقات والأشياء الغير مستحبة. واليد تُستعمل للعمل والكد والجهد وتقديم المساعدة والبناء والتعمير والإنشاء والتقدم، وهي يمكن أن تُستعمل في نفس الوقت، في أشياء معاكسة، فالحكمة هي في تجنّب الأمور الغير مستحبة وتبني الأمور الصحيحة. كذلك الرجل، هي التي تنقل الإنسان إلى أكبر وأقصى إنجازاته، وإلى تحقيق أمنياته، وفي نفس الوقت قد تؤدي به إلى هلاكه وإلى سوء المصير. والعين هي التي ترى وتراقب وتتفحص وتتحقق وتثبت وتؤكد الحقائق وما يجري أمامها، وهي ترى الجميل وغير الجميل، وهي تركّز على الفاضل والأحسن والأنسب، وفي نفس الوقت يمكن أن تشغل نفسها بأمور غير مرضية، وهنا امتحانها وقياسها الأكبر. والأذن كذلك تستطيع أن تسمع ما ترغب، وما لا ترغب، وبيد الإنسان القرار أن يستوعب ما هو مفيد، وما هو لائق ومناسب. والبطن هو الجزء الأهم في الجسم لنمو الإنسان ولتقدمه في الحياة، ومن ورائه تكمن أشياء كثيرة تحدّد مستواه الأخلاقي، فتجنّب أكل المواد المشبوهة والعناصر الغير مرغوب بها، هي فريضة على الجميع، وهناك مَن يتحكّم به بطنه، فيصبح شغله الشاغل الأكل والشرب والمتعة، ويهمل باقي المغذيات الروحانية والفكرية. وقد ذكرنا أن الصوم عن الأكل هو أول درجات الصوم. ويبقى لنا في الجسم الجزء المسبِّب لغالبية التعقيدات والتجاوزات الأخلاقية وهو الفرج، وهو هنا رمز للجنسين، ولا يقتصر على المرأة فقط، فعلى كل بني البشر، رجالا ونساء، صيانة هذا العضو وكبح جماحه وتحديد أهوائه والتحكم به، فقط من أجل الغاية التي وضعها الله، سبحانه وتعالى، وهي استمرار الجنس البشري. إن ترويض هذه الأشياء كلها في ليالي العشر وتوجيهها للأنسب والأصلح في هذه الأيام، يجب ان يكون منهجا وطريقا للإنسان، لكافة أيام السنة. وكثيرا ما يحدث أن يبدأ احدهم بفريضة معينة في ليالي العشر، ويقوم بتنفيذها كما يجب خلال الأشهر القادمة، ولكن يحدث فتور، أو تقصير أو تباطؤ في تنفيذ هذه الفريضة، باقي أيام السنة، فتأتي أيام العشر المجددة، لكي يبدأ هذا الإنسان من جديد في التركيز والتقيد بالفريضة التي اتبعها. وما أجمل الإنسان الذي امتنع عن شيء، حين يشعر بعظمة ما قام بالامتناع عنه. فليفكر كل إنسان إن كان قادما على عمل غير مستحب، وتوقف عن عمله، ما أقوى الشعور بالزهو والانتصار على النفس وعلى الشهوة وعلى الرغبة وعلى الجنوح وعلى الشذوذ، وهذا هو أكبر أنواع الانتصار.
3- صيانة النفس: وقد قيل النفس أمّارة بالسوء. وقد خلق الله، سبحانه وتعالى، الأرواح والنفوس والأجسام وهي متعادلة في نزعاتها وميولها، بنفس المقدار للخير وللشر. ومصير الإنسان، كل إنسان، يتعلق إلى أي مدى قام بواجبه نحو الخير، أو ترك نفسه تسير وراء أهوائها. ولو تُرك الإنسان ليسير حسب غرائزه وميوله الجسمانية والطبيعية، لاقترب من الحيوان في مسلك معيشته. ولكي يتباين الإنسان عن الحيوان، أوجد الله، سبحانه وتعالى، له التعاليم والفروض والواجبات التي تجعله يتقيد بها ويلتزم بعملها لكي يبتعد عن الحيوانية. وفي أيام العشر المباركة يجدّد الإنسان عهده مع أنبيائه ومع أوليائه ومع مجتمعه، على انتهاج طريق الفضيلة والخير والعمل الصالح. وفي هذه الأيام نفسها، يفرض الإنسان مجددا كل تلك القيود والموانع التي تصون نفسه وجسمه، وتجعل حياته أجمل وأفضل وذات جدوى ورفعة ومكانة وإتقان.
4- صيانة الفكر: لقد خلق الله، سبحانه وتعالى، للإنسان عقلا،. والعقل هو أكبر هبة منحها الله، سبحانه وتعالى، للإنسان. فبواسطة العقل، يستطيع كل امرئ، أن يتألق إلى ابعد الحدود.وبواسطة العقل، ينجرف من يريد ذلك إلى أحط الدرجات. فالعقل هو الأداة والسلاح والمطية والجهاز، وبواسطته بلغ الإنسان الفضاء، وقام بأكبر الاختراعات، وحقق لنفسه المدنية والتقدم. وفي نفس الوقت، قام بعض ذوي العقول التعيسة، باختراع ما سبب أكبر المآسي في التاريخ.والإنسان يستطيع أن يحكّم عقله من أجل حياته، ومن أجل سعادته، وفي نفس الوقت يستطيع بواسطة عقله أن يفكر مليا بالطبيعة والوجود، وأن يتعرف على عظمة الخالق، وعلى فخامة إنجاز الخليقة، وعملاقية تواجد البشرية، هذا العمل الذي أوجده الله سبحانه وتعالى لخدمة الإنسان. فكلما كبّرنا وبجّلنا عالما اخترع أو اكتشف شيئا ما، علينا دائما وأبدا، أن نبجل ونحترم ونقدّس العلي القدير، الذي أوجد كل هذا الكون، والذي يُلهم أصحاب العقول النيِّرة، أن يقوموا بإنجازاتهم. إذن الصوم في ليالي العشر فيما يتعلق بالعقل، هو الصوم عن الإشراك بالله تعالى، والصوم عن زهو الإنسان بعظمة قدراته هو، فعلى المرء مهما كان قويا وجبّارا، أن يعلم، أن قوة الله أعظم، وأنه هو الذي يسيّر العالم، وأن القرارات التي يتخذها الإنسان، مهما كان عاقلا ومفكرا، تُعتبر ذرات صغيرة، بالنسبة للعمل الجبّار الكامن وراء حقيقة الوجود.
5- صيانة القلب: القلب هو الجزء المتعارَف عليه، أنه العاطفي، وأنه يسيِّر أهواء وتحرّكات وشعور الإنسان، اتّجاه خالقه، واتجاه الذين خلقهم الله سبحانه وتعالى. وعلى كل إنسان، يقوم صباحا، أن يحمد الله سبحانه وتعالى ويشكره، أولا على وجوده هو وبقائه وعلى حفظه لأهل بيته ولمجتمعه وللبشرية جمعاء. فالترابط الروحاني بين الإنسان وخالقه، يعتمد بالدرجة الأولى على خلجات نفس هذا الإنسان، وعلى تحركات نبضه الداخلي، من ناحية ذكر الله والاستعانة به. ونلاحظ دائما أننا إذا كنّا مقبلين على سماع خبر خطير، أو قرار حاسم، أو أمر مصيري، تزداد نبضات القلب عندنا، بسبب التوتر الذي يحصل لأهمية هذا الخبر. وهذا يحدث بالنسبة لأمور صغيرة وهامّة، لكنها نسبيا ليست مصيرية كبيرة، فكيف بالنسبة لعلاقتنا الكبيرة مع الخالق. وهنا يكمن قدر الإنسان من ناحية الخير والشر، ومن ناحية الإيمان، ومن ناحية الاعتماد الكلي على الله سبحانه وتعالى. فالصوم في ليالي العشر، هو الصوم عن كل شعور بخبث، أو خدعة، أو تجني، أو افتراء، أو لؤم، على أحد من الناس، والترفع عن كل هذه الأمور بالنسبة للمجتمع، وبصورة أكبر بالنسبة لله سبحانه وتعالى، فمهما قسا القدر على الإنسان، يجب أن يحمد الله سبحانه وتعلى، وأن يرضى بحكمه وقدره، وأن لا يشك أبدا أن الله جل وعلا، لا يريد سلامته، أو ينوي الضرر به، ففي كل حدث مصيري حكمة ربانية عليا، ما زالت عقولنا وأفكارنا صغيرة من أن تستوعبها، وتعرف كنهها وحقيقتها. والمطلوب منا هو الاعتماد الكلي على الله سبحانه وتعالى، وتقبل كل ما يحدث، كقدر وكمصير، وبذلك تكمن سعادة قصوى، بحيث أن الإنسان يبتهج ويقبل بما لا يسرّه، قبل أن يبتهج ويقبل بما يسره.
في هذا المعنى، يمكن أن نقول، إن الجو الاحتفالي الذي يسود ليالي العشر، والتواصل الجماعي والتعايش المشترك،والإيمان العميق الذي يخيّم على جميع المؤمنين عند وجودهم في الخلوات وعند خروجهم منها، هو الذي يكسب العيد كل هذه المعاني العميقة والأبعاد الروحانية التي يتسم بها عيد الأضحى المبارك، حيث يسهل على الإنسان، أن يردع نفسه وأهواءه، عن أمور كثيرة كان لا يعلق عليها تلك الأهمية في أوقات عادية..
وبالنهاية أتقدم بالتهاني والتبريكات إلى جميع أبناء الطائفة المعروفية بمناسبة حلول عيد الأضحى المبارك راجيا من العلي القدير أن يعيده علينا بالخير واليمن والسعادة والهناء. وكل عام وأنتم بخير.
بقلم الشيخ أبو صلاح رجا نصر الدين – دالية الكرمل 22 إبريل 2010
ففي كل سنة، وفي مجريات أيام السنة العادية، يعمل الإنسان ويكد ويكدح، ويمارس حياته منشغلا بهمومه العائلية، وبمشاكله الحياتية، وبتحقيق أمنياته وطموحاته، والالتزام بواجباته وتعهداته، ولا يفكر، أحيانا بسبب خضمّ الواجبات، وأعباء المعيشة، بمهمة الحياة، وبالهدف من الوجود، وبسر الكينونة، وبعُمق المصير الإنساني، في هذه الدنيا الواسعة. لذلك، جاء عيد الأضحى المبارك، كي يتوقف عنده كل مؤمن، وكل فرد، وكل إنسان، وقفة تأمل وتطلع وتعلم وتحقق وتحسب، ليرى أهو سائر في الطريق الصحيح، وما هي أخطاؤه، وأين كان تقصيره، وماذا حقق من إجازات. وهناك المشايخ والمتدينون، الذين يذهبون ابعد من ذلك، ويستغلون هذه الفرصة، في إجراء حساب عسير وقاس ومشدد، على أنفسهم وعلى أهوائهم ورغباتهم ومواطن الضعف فيهم، بحيث يستمدّون من أيام العيد المباركة، طاقة جديدة، وقدرات إضافية، لكي يقوموا بأعبائهم وواجباتهم لسنة كاملة.
فعيد الأضحى، هو العيد والبهجة والفرحة بلقاء الأهل والإخوة والأصدقاء، وهو الفرصة لتجديد القوى العقلية، ولترويض الأفكار القدسية، ولتعزيز الخواطر العقائدية، ولتطبيق الفرائض المذهبية، وللتمتع بالأسرار والقدرات الباطنية العميقة .وكلما كان التأهل أثناء ليالي العشر المباركة غزيرا، كلما كان الاشتراك فيها عميقا وصادقا، وكانت البهجة بالعيد أكثر، والانتفاع ببركاته أكبر. فليالي العشر هي المفتاح، وهي المؤشر، وهي المقدمة، وهي العنوان. وفي هذه الفترة تتكرر زيارات المؤمنين يوميا للخلوات، ويسود جو من الفخار والإنتعاش، ومن الشعور بحياة قدسية عامرة، فأنت ترى أن جميع المتدينين الذين لا تسمح لهم ظروفهم أن يحضروا للخلوات خلال السنة، يواظبون على زيارة الخلوات والاشتراك بالمراسيم كما يجب، كما تجد العشرات من الشباب والبنات الذين لم يلتحقوا بعد بصفوف الدين، يقومون بالتبرك بالاشتراك بالسهرات الدينية العارمة، وفي هذه الليالي والأيام المباركة، يخطط أولائك الشباب والبنات الذين يرغبون في الالتحاق بصفوف الدين، أن يبدأوا قدومهم إلى الخلوات، لطلب صفو خاطر المشايخ، كما هو متبع، من أجل تسليمهم الفروض الدينية، بحيث يصادف تسليمهم الدين، أثناء ليالي العشر، وذلك زيادة في البركة والتقوى والإيمان.
لذلك نجد أن ليالي العشر هي أيام مصيرية، ولها كيانها ووجودها، وفيها تتم فروض كثيرة. والمتشددون من أبناء الطائفة، يقومون بأداء فريضة الصوم، وذلك حسب فلسفة منهج التوحيد الدرزي، الذي يمنح موضوع الصوم أبعاد أعمق وأكثر، لهذه الفريضة النبيلة التي تمارسها عادة كافة الشعوب، من منطلق العقيدة والإيمان بجدواها وفائدتها.
فالصوم عند الموحدين الدروز، هو عبارة باقة كبيرة أنيقة شاملة، من الفروض والواجبات والالتزامات، لكي يبلغ الإنسان الصائم، منتهى درجات ترويض النفس والعقل والقلب والجسم، لكي يستطيع أن يستوعب الروحانيات المغروسة في التعاليم المذهبية. وهناك من يعتقد أنه يمكن أن يؤدي واجبه بالنسبة للصوم، إذا امتنع عن المأكل والمشرب في ساعات معينة فقط. وهذا أمر جميل ووارد، لكنه لا يفي الإنسان إلا ذرة من الأجر والثواب المطلوب. فالصوم له مسارات ومسالك كبيرة ومتشعبة، نأمل أن يعيننا الله، أن نستطيع أن نشرح بعضها في هذه العجالة في هذا المقال.
الصوم عند الموحدين الدروز يشمل الأمور التالية:
1- صيانة البطن من أكل الحرام، ومن الأمور المشبوهة، وترويض الجسم على الاكتفاء بالقليل، وتقبّل الموجود والمتوفِّر، وعدم الركض والسعي وراء البذخ والصرف والتبذير، من أجل إشباع الشهوة الجسمانية، والرغبة الطبيعية في الأكل، والتلذذ بمختلف أصنافه وأنواعه، وما هو متوفر في الأسواق من مأكولات، تزيد في الشهية، ولها مضار وأبعاد ومشاكل صحية ومادية واجتماعية. فالعالم غير مكوَّن من طبقة واحدة، والناس يختلفون ويتباينون بأوضاعهم الاجتماعية وقدراتهم الاقتصادية، وما يستطيع أن يجنيه أحدهم، لا يمكن أن يحصل عليه الآخر. وكثيرا ما تبرز هذه الفروق بين الناس، وتسبّب إلى عقد وإلى مشاكل وإلى حزازات وخلافات، الجميع في غنى عنها. فاقتصار المؤمن على الضروري والموجود والقليل، من المأكل والمشرب والحلوى، فيه فائدة له ولأسرته ولمجتمعه وللبيئة التي يعيش فيها. وهذه هي أول درجات الصوم، وأبسط أنواعه، وأكثره شيوعا. وحبذا لو يظل منتشرا عند جميع الشعوب والطوائف، لكنه لا يكفي.
2- صيانة الجسم من الأشرار والتجاوزات والاستعمال السيئة لوظائف الجسم المختلفة، التي خلقها الله سبحانه وتعالى، كي يستعملها الإنسان من أجل الكمال. وقد قام معلمنا وسيدنا الأكبر، الأمير السيد (ق) بشرح هذه الأمور في تعاليمه، بشكل جميل، حبذا لو رجع إليها كل مؤمن، كي يستفيد من تلك التعاليم، ويتقيّد بها، لتصبح حياته أفضل. وهنا نوجز هذه التعاليم بشكل سريع، لمجرد التذكير والإشارة فقط، فنقول إن في الجسم الجوارح السبعة وهي:اللسان، والعين، والأذن، والرجل، واليد، والبطن،والفرج. وهذه الأعضاء هي التي تربط الجسم البشري مع بيئته ومع محيطه، وهي التي تكوّن علاقاته الاجتماعية والأخلاقية والأهلية وغيرها، وأي استعمال سيئ لهذه الأعضاء، فيه خلل وفيه شذوذ وانحراف عن المسار الصحيح، الذي وضعه الخالق، سبحانه وتعالى للإنسان. فالإنسان يجب أن ينطق بالخير، وأن يلهج بالمدح والثناء، وان يتجنب النميمة والإساءة والتحريض والتشهير والكلمات البذيئة وغير ذلك من الموبقات والأشياء الغير مستحبة. واليد تُستعمل للعمل والكد والجهد وتقديم المساعدة والبناء والتعمير والإنشاء والتقدم، وهي يمكن أن تُستعمل في نفس الوقت، في أشياء معاكسة، فالحكمة هي في تجنّب الأمور الغير مستحبة وتبني الأمور الصحيحة. كذلك الرجل، هي التي تنقل الإنسان إلى أكبر وأقصى إنجازاته، وإلى تحقيق أمنياته، وفي نفس الوقت قد تؤدي به إلى هلاكه وإلى سوء المصير. والعين هي التي ترى وتراقب وتتفحص وتتحقق وتثبت وتؤكد الحقائق وما يجري أمامها، وهي ترى الجميل وغير الجميل، وهي تركّز على الفاضل والأحسن والأنسب، وفي نفس الوقت يمكن أن تشغل نفسها بأمور غير مرضية، وهنا امتحانها وقياسها الأكبر. والأذن كذلك تستطيع أن تسمع ما ترغب، وما لا ترغب، وبيد الإنسان القرار أن يستوعب ما هو مفيد، وما هو لائق ومناسب. والبطن هو الجزء الأهم في الجسم لنمو الإنسان ولتقدمه في الحياة، ومن ورائه تكمن أشياء كثيرة تحدّد مستواه الأخلاقي، فتجنّب أكل المواد المشبوهة والعناصر الغير مرغوب بها، هي فريضة على الجميع، وهناك مَن يتحكّم به بطنه، فيصبح شغله الشاغل الأكل والشرب والمتعة، ويهمل باقي المغذيات الروحانية والفكرية. وقد ذكرنا أن الصوم عن الأكل هو أول درجات الصوم. ويبقى لنا في الجسم الجزء المسبِّب لغالبية التعقيدات والتجاوزات الأخلاقية وهو الفرج، وهو هنا رمز للجنسين، ولا يقتصر على المرأة فقط، فعلى كل بني البشر، رجالا ونساء، صيانة هذا العضو وكبح جماحه وتحديد أهوائه والتحكم به، فقط من أجل الغاية التي وضعها الله، سبحانه وتعالى، وهي استمرار الجنس البشري. إن ترويض هذه الأشياء كلها في ليالي العشر وتوجيهها للأنسب والأصلح في هذه الأيام، يجب ان يكون منهجا وطريقا للإنسان، لكافة أيام السنة. وكثيرا ما يحدث أن يبدأ احدهم بفريضة معينة في ليالي العشر، ويقوم بتنفيذها كما يجب خلال الأشهر القادمة، ولكن يحدث فتور، أو تقصير أو تباطؤ في تنفيذ هذه الفريضة، باقي أيام السنة، فتأتي أيام العشر المجددة، لكي يبدأ هذا الإنسان من جديد في التركيز والتقيد بالفريضة التي اتبعها. وما أجمل الإنسان الذي امتنع عن شيء، حين يشعر بعظمة ما قام بالامتناع عنه. فليفكر كل إنسان إن كان قادما على عمل غير مستحب، وتوقف عن عمله، ما أقوى الشعور بالزهو والانتصار على النفس وعلى الشهوة وعلى الرغبة وعلى الجنوح وعلى الشذوذ، وهذا هو أكبر أنواع الانتصار.
3- صيانة النفس: وقد قيل النفس أمّارة بالسوء. وقد خلق الله، سبحانه وتعالى، الأرواح والنفوس والأجسام وهي متعادلة في نزعاتها وميولها، بنفس المقدار للخير وللشر. ومصير الإنسان، كل إنسان، يتعلق إلى أي مدى قام بواجبه نحو الخير، أو ترك نفسه تسير وراء أهوائها. ولو تُرك الإنسان ليسير حسب غرائزه وميوله الجسمانية والطبيعية، لاقترب من الحيوان في مسلك معيشته. ولكي يتباين الإنسان عن الحيوان، أوجد الله، سبحانه وتعالى، له التعاليم والفروض والواجبات التي تجعله يتقيد بها ويلتزم بعملها لكي يبتعد عن الحيوانية. وفي أيام العشر المباركة يجدّد الإنسان عهده مع أنبيائه ومع أوليائه ومع مجتمعه، على انتهاج طريق الفضيلة والخير والعمل الصالح. وفي هذه الأيام نفسها، يفرض الإنسان مجددا كل تلك القيود والموانع التي تصون نفسه وجسمه، وتجعل حياته أجمل وأفضل وذات جدوى ورفعة ومكانة وإتقان.
4- صيانة الفكر: لقد خلق الله، سبحانه وتعالى، للإنسان عقلا،. والعقل هو أكبر هبة منحها الله، سبحانه وتعالى، للإنسان. فبواسطة العقل، يستطيع كل امرئ، أن يتألق إلى ابعد الحدود.وبواسطة العقل، ينجرف من يريد ذلك إلى أحط الدرجات. فالعقل هو الأداة والسلاح والمطية والجهاز، وبواسطته بلغ الإنسان الفضاء، وقام بأكبر الاختراعات، وحقق لنفسه المدنية والتقدم. وفي نفس الوقت، قام بعض ذوي العقول التعيسة، باختراع ما سبب أكبر المآسي في التاريخ.والإنسان يستطيع أن يحكّم عقله من أجل حياته، ومن أجل سعادته، وفي نفس الوقت يستطيع بواسطة عقله أن يفكر مليا بالطبيعة والوجود، وأن يتعرف على عظمة الخالق، وعلى فخامة إنجاز الخليقة، وعملاقية تواجد البشرية، هذا العمل الذي أوجده الله سبحانه وتعالى لخدمة الإنسان. فكلما كبّرنا وبجّلنا عالما اخترع أو اكتشف شيئا ما، علينا دائما وأبدا، أن نبجل ونحترم ونقدّس العلي القدير، الذي أوجد كل هذا الكون، والذي يُلهم أصحاب العقول النيِّرة، أن يقوموا بإنجازاتهم. إذن الصوم في ليالي العشر فيما يتعلق بالعقل، هو الصوم عن الإشراك بالله تعالى، والصوم عن زهو الإنسان بعظمة قدراته هو، فعلى المرء مهما كان قويا وجبّارا، أن يعلم، أن قوة الله أعظم، وأنه هو الذي يسيّر العالم، وأن القرارات التي يتخذها الإنسان، مهما كان عاقلا ومفكرا، تُعتبر ذرات صغيرة، بالنسبة للعمل الجبّار الكامن وراء حقيقة الوجود.
5- صيانة القلب: القلب هو الجزء المتعارَف عليه، أنه العاطفي، وأنه يسيِّر أهواء وتحرّكات وشعور الإنسان، اتّجاه خالقه، واتجاه الذين خلقهم الله سبحانه وتعالى. وعلى كل إنسان، يقوم صباحا، أن يحمد الله سبحانه وتعالى ويشكره، أولا على وجوده هو وبقائه وعلى حفظه لأهل بيته ولمجتمعه وللبشرية جمعاء. فالترابط الروحاني بين الإنسان وخالقه، يعتمد بالدرجة الأولى على خلجات نفس هذا الإنسان، وعلى تحركات نبضه الداخلي، من ناحية ذكر الله والاستعانة به. ونلاحظ دائما أننا إذا كنّا مقبلين على سماع خبر خطير، أو قرار حاسم، أو أمر مصيري، تزداد نبضات القلب عندنا، بسبب التوتر الذي يحصل لأهمية هذا الخبر. وهذا يحدث بالنسبة لأمور صغيرة وهامّة، لكنها نسبيا ليست مصيرية كبيرة، فكيف بالنسبة لعلاقتنا الكبيرة مع الخالق. وهنا يكمن قدر الإنسان من ناحية الخير والشر، ومن ناحية الإيمان، ومن ناحية الاعتماد الكلي على الله سبحانه وتعالى. فالصوم في ليالي العشر، هو الصوم عن كل شعور بخبث، أو خدعة، أو تجني، أو افتراء، أو لؤم، على أحد من الناس، والترفع عن كل هذه الأمور بالنسبة للمجتمع، وبصورة أكبر بالنسبة لله سبحانه وتعالى، فمهما قسا القدر على الإنسان، يجب أن يحمد الله سبحانه وتعلى، وأن يرضى بحكمه وقدره، وأن لا يشك أبدا أن الله جل وعلا، لا يريد سلامته، أو ينوي الضرر به، ففي كل حدث مصيري حكمة ربانية عليا، ما زالت عقولنا وأفكارنا صغيرة من أن تستوعبها، وتعرف كنهها وحقيقتها. والمطلوب منا هو الاعتماد الكلي على الله سبحانه وتعالى، وتقبل كل ما يحدث، كقدر وكمصير، وبذلك تكمن سعادة قصوى، بحيث أن الإنسان يبتهج ويقبل بما لا يسرّه، قبل أن يبتهج ويقبل بما يسره.
في هذا المعنى، يمكن أن نقول، إن الجو الاحتفالي الذي يسود ليالي العشر، والتواصل الجماعي والتعايش المشترك،والإيمان العميق الذي يخيّم على جميع المؤمنين عند وجودهم في الخلوات وعند خروجهم منها، هو الذي يكسب العيد كل هذه المعاني العميقة والأبعاد الروحانية التي يتسم بها عيد الأضحى المبارك، حيث يسهل على الإنسان، أن يردع نفسه وأهواءه، عن أمور كثيرة كان لا يعلق عليها تلك الأهمية في أوقات عادية..
وبالنهاية أتقدم بالتهاني والتبريكات إلى جميع أبناء الطائفة المعروفية بمناسبة حلول عيد الأضحى المبارك راجيا من العلي القدير أن يعيده علينا بالخير واليمن والسعادة والهناء. وكل عام وأنتم بخير.
بقلم الشيخ أبو صلاح رجا نصر الدين – دالية الكرمل 22 إبريل 2010
0 تعليقات::
إرسال تعليق