ظلت السجالات النظرية ـ المنهجية تدور في إطار الماكروسوسيولوجيا الكلاسيكية المتوارثة من القرن التاسع عشر حتى العشرينيات من القرن العشرين إلى أن بدأت الطروحات المناهضة لكل من مفهوم النظام الاجتماعي الماكروي ومفهوم البنية الإجتماعية الماكروية الشائعين تظهر في طروحات المجددين في التنظير المنهجي ومنهم:
ـ المجددون الماركسيون ممن سُموا بمنظري مدرسة فرنكفورت . وقد توصل هؤلاء على خلفية ماركسية نقدية إلـى اجتهـادات نظرية ـ منهجية أعادت التوازن في التنظير الاجتماعي بين مستوى التحديد البنيوي ـ التاريخي لشروط الهيمنة الطبقية في المجتمع من جهة وبين النوازع الثقافية الذاتية الكامنة في أفعال (Actions) الأفراد داخل جماعاتهم أو مجتمعاتهم المحلية من جهة أخرى. وظل هاجس مُنظري تلك المدرسة هو الابتعاد عن التفسير التجريبي ـ الإحصائي لأفعال الأفراد في المجتمع والتركيز على الربط بين آليات التكييف التي تفرضها بُنى المجتمع الرأسمالي عليهم من جهة وبين خصائص وإمكانات تكيُّفهم إيجاباً أو سلباً المتاحة أمامهم في البُنى الفرعية للمجتمعات المحلية من جهة أخرى.
وغني عن البيان أن رجحان المقاربات الميكروسوسيولوجية الذاتانية لاقت قبولاً لدى الفئات المتوسطة، مع ترسخ دولة الرعاية خلال العقدين اللذين أعقبا الحرب العالمية الثانية على حد تقدير غوفمان وأتباعه في هذه المقاربات. هذه الدولة التي »توحي رعايتها بإمكانات الحراك وتجاوز التصنيفات الطبقية وترجيح المظاهر القابلة للإستثمار في الحراك والترقي حيث يصبح التلفزيون هو الذي يحكم تشكل الواقع« (١) و لاحقا حيث بات »الإعلام المعولم يحكم الوجود الإجتماعي ويحوله« (٢). وتجدر الإشارة إلى أن الثورة الإعلامية تعتمد لغة التواصل حيث باتت تختلط في تعابيرها الموجّهة إلى المجتمع المحلي مدلولات المفاهيم الدينية ( الشراكة والتكافل والمشورة) مع البداهات الحداثية المروّجة بفعل التنشئة التواصلية »على حد تعبير هابرماز« .
ويذكر هذا الباحث انه في الوقت الذي لم يحُل فيه اعتماد مثل هذه اللغة التواصلية المختلطة دون بروز التصادم الحاد بين البداهات الشائعة في خلفيات الثقافات التقليدية المنفعلة من جهة وبين أفكار الحداثة الوافدة من المجتمعات الليبرالية المتجددة من جهة أخرى. فإن تأثيرات أفكار الحداثة هذه الوافدة في تلك اللغة التواصلية عززت في المقابل ميول نُخب الفئات المتوسطة في المجتمعات المحلية الفقيرة ، ولا سيما الشباب ضمنها ، إلى مكونات الخطاب النيويبرالي الموحي بإمكانيات التجاوز والحراك وترقي الأفراد داخل الأسواق المفتوحة. يساهم في ذلك تركيز الإعلام المتطور على أهمية وعيهم لضرورة أن يتحملوا، بذواتهم هم، أكلاف طموحاتهم في تجاوز مجتمعاتهم وهجرها أو مسؤولية البقاء فـي ما يعانونه فيها ودفع أكلاف معارضتهم لتقبل ثقافة الأسواق النيو ليبرالية المفتوحة. إلاّ أن هابرماز جنح إلى تعميم رجحان تأثير الحداثة على الشباب داخل الأسواق المفتوحة من خلال تحريك طموحاتهم المكلفة نحو الترقي والأدوات الإستهلاكية المعولمة والهجرة. وأغفل أن استعصاء بلوغ هذه الطموحات في الأسواق الفقيرة المفتوحة يخلق في المقابل لدى الشباب أيضاً مناخاً نفسيا وثقافياً ملائماً لمعارضات دينية و أواتنية منفعلة نفسياً وثقافياً على الحداثة الرأسمالية المفرطة في تعويق تنمية مواردهم البشرية وغير البشرية في البلدان الفقيرة تحت رايات الأصوليات الإسلامية المتوسعة.
لقد ساهم في تداخل السجالات النظرية ـ المنهجية حول العلاقة بين المجتمع الكبير والمجتمع المحلي. تمرس الإعلام الفضائي والإلكتروني في تسهيل الإتصال وفي التمكن من إزاحة التناقض في وعي الأفراد من حقل آليات الفعل الإقتصادي ـ السياسي المُحدِّد لعيشهم في ظل الأسواق المعولمة ، ولو في نهاية التحليل كما يقول لوي ألتوسير ، إلى حقل ظواهر انفعالاتهم الثقافية ـ السلوكية اليومية المهيمنة في مجتمعاتهم المحلية حيث يعجزون عن تجاوز الإنفعال إلى التملك النظري لتلك الآليات. إنها الظواهر الماثلة في زيف الوعي المُعلن منه والمكبوت لدى الجماعات المختلفة في انتماءاتها القرابية أو الطائفية أو الإتنية المشدودة إلى التطرف المموِّه للفقر والتهميش. وقد برزت الميول إلى المقاربات الميكروسوسيولوجية خاصة بعد الانهيار السو؟ـياتي وأفول النهج الكلياني القائل بالحتمية التاريخية. وبرز في المقابل الاعتماد على المقاربة الاتنوميتودولوجية القائمة على النفاذ عبر التعبيرات الثقافية الخاصة باللغة المحلية للوصول إلى فهم النظام الإجتماعي الكامن في لاوعي الجماعة.
المجددون الوظائفيون وإذا كانت المواجهة النظرية والسياسية في إطار الأبحاث السوسيوانتروبولوجية قد تحولت مع مدرسة فرنكفورت إلى مواجهة نظرية أعقد. بعد أن شكل تيار هذه المدرسة خروجا على حصرية المقاربة الماكروبنيوية المادية التاريخية ونقضا للمقاربة الوضعية التجريبية المقتصرة على تقنيات التصنيف الإحصائي، إلاّ أن الأهم في ظهور هذا التيار المتمركس هو انه أدى إلى استنهاض وتبلور تيار ميكروسوسيولوجي معارض له سمّي بتيار مدرسة شيكاغو كان ابرز رواده (Florian ;Znaniecky et Georges Simmel) . وهو تيار قصر مقارباته الثقافوية والبسيكوسوسيولوجية ، بين الحربين العالميتين، على الابحاث التجريبية والملاحظة بالمشاركة لاوضاع الجماعات المنحرفة والمعرضة والمهاجرة في احياء المدن الاميركية في حدود البنية المحلية (Communaute) باستقلال عن تأثيرات المجتمع الكبير عليها. وكانت المدن الصناعية الاميركية الكبرى (Middletown) قد شهد ت بعد الحرب الأولى تزايدا للفرز الطبقي البيئوي الحاد داخلها و ظهورا لمناطق وجماعات محلية متأزمة اجتماعياً انتشرت فيها ظواهر الإقصاء الاجتماعي الحاد والزمر المافياوية. ظواهر رجحت مجتمعة ميول الباحثين الوظائفيين الى تعديل مقاربتهم باتجاه التركيز في تفسير هذه الظواهر على تفاعل الأفراد داخل المجتمع المحلي وحسب .
ولذلك رأى أنصار مدرسة شيكاغو أن فهم هذه الظواهر ليس ممكنا لا من خلال المحدّدات الطبقية الماكرواجتماعية ولا من خلال مقاربات علم الإجتماع التطبيقي الإحصائي. وتعزّزت هذه المقاربات التي شاعت موجتها بين الحربين معتمدة من قبل الإعلام الموجه بهدف فهم عفوية الآراء المباشرة للجنود اتجاه الحرب و آراء العمال اتجاه الشركات بغية معاودة العمل على إعادة تكوين آرائهم لصالح التعبئة الحربية ولصالح الشركات، دونما اعتبار للأبعاد الثقافية المرتبطة بالمضامين الأخلاقية والميول النفسية الاجتماعية المقبولة عموما على صعيد الحس المشترك للجماعة المحلية المستجوبة، فيختزل الفرد المستجوب إلى واحد من مكونات شخصيته معزولا عن مكوناتها الأخرى المندمجة ثقافيا بشكل أو بآخر في مجتمعها المحلي.
وتعززت المقاربة الميكروسوسيولوجية لمدرسة شيكاغو مع تبلور الاتجاه الوظائفي الذي روّج له تلكوت بارسونز ولا سيما بعد صدور كتابه المرجع عام ١٩٥١ تحت عنوان »النظام الاجتماعي« . كما وتعززت هذه المقاربة بفضل المدارس الميكروثقافوية التي ندعو إلى التوقف أمام المدلولات الملاحظة مباشرة في التعبيرات والممارسات اليومية وفي تجارب الأفراد وذلك في إطار ما يسمى بالسوسيولوجيا الفينومينولوجية. وقد تبلورت، هذه المدارس الميكروسوسيولوجية في ما سمي لاحقا بالاتنوميتودولوجيا. وذهب رواد هذه المدرسة وأبرزهم (Harold Garfinkel et Aaron Cicourel) إلى تجاوز الستاتيكية الوظائفية في مفهوم النظام القائلة بدينامية توازنه الداخلي التلقائي عن طريق إتاحته لفرص الحراك الاجتماعي أمام الأفراد والى مخالفة دوركهايم في اعتبار الظواهر الاجتماعية أموراً خارجة عن إرادة الافراد. لا بل دعا الاتنوميتودولوجيون في مقاربتهم إلى التركيز على الاتنوغرافيا أي على الطرق الشعبية الرائجة في التعبير لدى الجماعة وفي استكشاف جذور العقلانية المحلية سواء للتعرف على الممارسات العادية للحياة اليومية وتعبيرات التواصل أو لفهم الأمور المستغربة(٣) . وأضيفت إلى الميكرو سوسيولوجيا الثقافوية لمدرسة شيكاغو ما سمي بالمدرسة التفاعلية Interactionnisme ) القائلة بان الظواهر الاجتماعية ما هي إلا نتائج لتفاعلات القادة والفاعلين المتشابكين داخل المجتمع المحلي ليشكلوا النظام الاجتماعي. كما وتُضاف إلى المدرستين السابقتين، المندرجتين في ما يسمى بسوسيولوجيا الأفراد، مدرسة الفردانية الممنهجة (Individualisme méthodologique) التي ترفض القول بالحتمية الماكروبنيوية، و تعرّف الظاهرة الاجتماعية إنها حصيلة مجموعة أفعال وسلوكيات لأفراد عقلانيين . وكان ابرز روادها ريمون بودون الذي يرى أن الأفراد يمارسون اختياراتهم آخذين بالاعتبار ضغوط الوسط الاجتماعي، وكل فرد يجد نفسه أمام حصيلة الأرباح أو الخسائر المترتبة على اختياره المتاح في وسطه.
ثالثاً: المقاربات الميكروبنيوية التكوينية التي تربط بين أفعال الأفراد وضرورات البُنى
(Structuralisme génétique):
في مقابل تيار الميكروسوسيولوجيا امتمركسة لرواد مدرسة فرانكفورت ، التي تجاوزت المقولة الماركسية التقليدية حول التفسير بحتمية التحديد الماكرواقتصادي للتغيير في المجتمع، تبلورت خلال الثمانينيات ميكروسوسيولوجيا متمركسة نقدية جديدة تميزت فيها مقاربة بيار بورديو بكونها تعتمد في بنيويتها التكوينية منحى لا يرى في تفاعل الأفراد وممارساتهم داخل النظام الميكروثقافي المحلي تكيفاً سلبياً منهم مع القواعد التي يفرضها عليهم وحسب بل يرى أيضاً ان هذا التفاعل يتاثر بميلهم الواعي أو غير الواعي إلى مقاربة الربح والخسارة في كل سلوك تفاعلي. بمعنى أنها مقاربة تتجاوز ميول الأفراد إلى تحليل عقلاني للعوامل الماكروبنيوية العائدة إلى الإختلافات الطبقية للرساميل الثقافية والاجتماعية المتاحة للأفراد في عائلاتهم (٤). إنها مقاربة تتجاوز وصف التفاعل الثقافوي في الواقع المحلي إلى محدّداته الطبقية المؤشرة غالبا و سلفا إلى حدود فرص تغييره.
وقد ربط بورديو بين التفاعل الثقافي داخل بنية المجتمع المحلي الذي يجري في إطار ما يسميه »لعبة العنف الرمزي«. هذا العنف المرتبط بكل سلطة تتوصل إلى فرض شرعية معانيها ومقاصدها مموهة بموازين القوة التي »تؤسس لقوتها« »وتشرعن تأثيرها الذي يختلف بين فرد وآخر باختلاف رأسماله الثقافي المتمثل بما يتوفر له من مركز اجتماعي ونوعية ومستوى تعليم وثقافة مميزين. وتجدر الإشارة إلى أن هذا التأثير يختلف أيضاً باختلاف الثقافات المحلية (Sous cultures) التي تختلف في ما بينها من حيث انفتاح ومرونة كل منها «. »وفي الثقافات المحلية يختلف استعداد كل فرد لعملية التكيف مع الأوضاع المتغيرة والقوانين والقيم والمعتقدات التي يخضع لها ومدى ملاءمتها لمصالحه كما يراها هو أو كما يراها عنه القادة في ثقافته المحلية«.
وظهرت تفرعات نظرية مشابهة في الميكروسوسيولوجيا النقدية تربط ما بين أفعال الأفراد وسلوكياتهم من جهة وما بين التأثير الضاغط عليهم في رأسمالية ما بعد الحداثة فتعطـل ذواتهم كما يقول يورغن هابرماز (٥) ويصبح تحررهم من ضغوطها لا يقوم على الثورة وعلى صراع الطبقات بقدر ما يقوم على التحرر من مفاعيل الإعلام الإتصالي اليومي الذي يركز على عقلانية عملية يتحكم من خلالها بتنشئة الأفراد فيتعرفون على بعضهم من خلاله وليس من خلال العودة إلى ذواتهم. إنه الوعي الذي يتحكم، في بنيوية هابرماز، بالوجود الاجتماعي وهذا ما لاحظناه في توجه رواد مدرسة فرنكفورت وليس العكس كما في الطروحات الماركسية التقليدية.
يرى هابرماز أن الإعلام الموجه من مراكز النيوليبرالية ومن الفضائيات المحليـة، المرتهنة لمصادر إمدادها الإعلامي الاحتكاري العابر للقارات، لم يؤدِ إلى تحريك الاختلافات الإتنية والثقافية للجماعات في المجتمعات الغنية وإلى تهديد الطابع الإمبريالي لدولها . هذه الدول التي وضعت حدود أمنها الاقتصادي والسياسي القومي داخل حدود الأسواق والمجتمعات الفقيرة، و ساهمت بفعل تنامي القدرة الاستيعابية لاقتصادياتها الامبريالية بدفع الجماعات الوافدة إليها إلى التخفيف من تعلقها بفروقاتها وحساسياتها الاتنوثقافية كشرط للتنعم بفوائد الاندماج في ازدهار أسواقها العابرة للقارات، واضطرت هذه الجماعات الوافدة إلى تبني منظومة القيم المدنية التعاقدية بالإضافة إلى شرط تملك الأفراد ،مهما كانت مناشئهم ، لقدرات متميزة على صعيد الكفاءآت التقنية وإدارة الأعمال لاستثمارها في المنافسة المطلقة التي يفرضها قانون الربح. إلاّ أن الإعلام الإتصالي الرقمي الموجه الذي ساهم، كما يقول هابرماز، في التعريف الضروري والمفيد بالإختلافات والخصائص الثقافية لهوية الجماعات في المجتمعات الفقيرة ساهم في المقابل في تعطيل أي أمل بالسيادة الوطنية على موارد وأمن هذه المجتمعات.
وساهم أيضا في تهديد وحدة البلدان الفقيرة بعد أن وفر المساحات الفضائية للخطابات العصبوية الإلغائية. وأن الأكلاف العالية لهذا الإعلام الإتصالي الإحتكاري المجمهر ساهم في تلك البلدان، ومنها لبنان على سبيل المثال، بتوفير التقنيات المطلوبة لحصر تعددية الزعامة داخل الجماعة الطائفية الواحدة،
لقد بالغ الإعلام الاتصالي والفضائيات المرتهنة للإحتكارات الداخلية والخارجية بتضخيم الخصائص الثقافية للجماعات في البلدان الفقيرة فشجعها على الانغلاق داخل هوياتها العصبوية. وكان من نتيجة ذلك إتساع الترويج لثقافة الولاءات الزبائنية التي يقوم بها مفاتيح الانتخابات والمنظمات الأهلية التي تتولى تنظيم الخدمات الإغاثية بدل التنمية المتكاملة للموارد المحلية. إنها ثقافة تعوِّق الإرتقاء إلى وعي الشروط السياسية والمدنية المحلية والوطنية للتنمية البشرية.
وتُضاف إلى صعوبة حصر المفاعيل المتزايدة للإعلام الإتصالي في المجتمع المحلي الذي يصفه هابرماز، صعوبة ثانية تُلاحظ في مجتمعاتنا المحلية العربية عامة واللبنانية خاصة، ناجمة عن الإزدواج في لغة الإتصال المشتركة داخل الجماعة المحلية (Communauté). هذا الازدواج الذي تعتمده غالبية الناس ليتمكنوا من تحمل أشكال معاناة تهميشهم وكبتها معتمدين لغة التهادن. إنها اللغة التي ترجح داخلها غالباً تعبيرات التوافق المُعلن على تعبيرات التحسس والتوتر المستتر. وهي لغة معتمدة احيانا كثيرة لاستمرار الأمان في العيش المشتـرك بين الفئات المتعصبة، تستبعد الشفافية وتعتمد نواميس التقية أو الإســتتار بالمألــوف كما يروّج في أوساط الفئات المتعصبة داخل الطوائف اللبنانية. أو هي لغة »تقبيل اليد التي لا قدرة على عضها«. ولهذا فهي لغة لا تقوى تقنية الاستمارة على سبر أغوار تعبيراتها كمثل تقنية الملاحظة من خلال المشاركة بتفاصيل العيش، كما تقترحه السوسيولوجيا الفينومينولوجية، في دورة حياة كاملة حيث يجري يومياً تبادل التعبيرات التقليدية المألوفة والمداورة حولها.
ولهذا يطرح هابرماز »التساؤلات حول مدى ملاءمة المفاهيم وتقنيات المقاربة مع الجماعات المحلية وحول ارتباط هذه الملاءمة بمدى التفاعل مع لغة التواصل اليومية المألوفة محلياً. هذه اللغة التي هي أساس للعيش المشترك ولنظام التواصل في المجتمعات المحلية، ولا سيما الريفية منها، كما يقول ليـ؟ـي شتراوس. ففي هذه اللغة تبرز التعبيرات الثقافية المألوفة التي تطال مواقع الدين والسلطة والمرأة والملكية. وهي التعبيرات التي ترتدي غالباً طابع التورية عبر الأمثال الشعبية أو المزاح أو النكات. وهي التي يمكن إدراجها في ما يُسميه هابرماز بـ»الفعل الإتصالي« (L?agir communicational). أو فعل التنشئة الذي بات يهيمن عبر الإعلام الرقمي داخل نظام المجتمع وبات يحكم تبلور الذاتيات الفردية الفاعلة منها والمنفعلة«.
١ - N. Herpin «Les sociologies americains et le siècle »Paris, PUF, .1973 P: 156.
٢ - J. Habermas «Théorie de l"agir communicationnel» Paris Fayard .1981 Tome .1 P: 115 .
٣ - G. Lapassade «L"Ethnomethodologie» Paris, Méridiens Klinclcsieck, .1991 pp: 73 -74
٤ - P. Bourdieu, J.C. Passeron,«Les Heritiers » Paris, Minuit, .1964 pp : 30 - 34 .
٥ - J. Habermas «Théorie de l"agir communicationnel« OP.cit. P: .116
أحمد بعلبكي ([) كاتب لبناني - السفير- 29\11\2008
ـ المجددون الماركسيون ممن سُموا بمنظري مدرسة فرنكفورت . وقد توصل هؤلاء على خلفية ماركسية نقدية إلـى اجتهـادات نظرية ـ منهجية أعادت التوازن في التنظير الاجتماعي بين مستوى التحديد البنيوي ـ التاريخي لشروط الهيمنة الطبقية في المجتمع من جهة وبين النوازع الثقافية الذاتية الكامنة في أفعال (Actions) الأفراد داخل جماعاتهم أو مجتمعاتهم المحلية من جهة أخرى. وظل هاجس مُنظري تلك المدرسة هو الابتعاد عن التفسير التجريبي ـ الإحصائي لأفعال الأفراد في المجتمع والتركيز على الربط بين آليات التكييف التي تفرضها بُنى المجتمع الرأسمالي عليهم من جهة وبين خصائص وإمكانات تكيُّفهم إيجاباً أو سلباً المتاحة أمامهم في البُنى الفرعية للمجتمعات المحلية من جهة أخرى.
وغني عن البيان أن رجحان المقاربات الميكروسوسيولوجية الذاتانية لاقت قبولاً لدى الفئات المتوسطة، مع ترسخ دولة الرعاية خلال العقدين اللذين أعقبا الحرب العالمية الثانية على حد تقدير غوفمان وأتباعه في هذه المقاربات. هذه الدولة التي »توحي رعايتها بإمكانات الحراك وتجاوز التصنيفات الطبقية وترجيح المظاهر القابلة للإستثمار في الحراك والترقي حيث يصبح التلفزيون هو الذي يحكم تشكل الواقع« (١) و لاحقا حيث بات »الإعلام المعولم يحكم الوجود الإجتماعي ويحوله« (٢). وتجدر الإشارة إلى أن الثورة الإعلامية تعتمد لغة التواصل حيث باتت تختلط في تعابيرها الموجّهة إلى المجتمع المحلي مدلولات المفاهيم الدينية ( الشراكة والتكافل والمشورة) مع البداهات الحداثية المروّجة بفعل التنشئة التواصلية »على حد تعبير هابرماز« .
ويذكر هذا الباحث انه في الوقت الذي لم يحُل فيه اعتماد مثل هذه اللغة التواصلية المختلطة دون بروز التصادم الحاد بين البداهات الشائعة في خلفيات الثقافات التقليدية المنفعلة من جهة وبين أفكار الحداثة الوافدة من المجتمعات الليبرالية المتجددة من جهة أخرى. فإن تأثيرات أفكار الحداثة هذه الوافدة في تلك اللغة التواصلية عززت في المقابل ميول نُخب الفئات المتوسطة في المجتمعات المحلية الفقيرة ، ولا سيما الشباب ضمنها ، إلى مكونات الخطاب النيويبرالي الموحي بإمكانيات التجاوز والحراك وترقي الأفراد داخل الأسواق المفتوحة. يساهم في ذلك تركيز الإعلام المتطور على أهمية وعيهم لضرورة أن يتحملوا، بذواتهم هم، أكلاف طموحاتهم في تجاوز مجتمعاتهم وهجرها أو مسؤولية البقاء فـي ما يعانونه فيها ودفع أكلاف معارضتهم لتقبل ثقافة الأسواق النيو ليبرالية المفتوحة. إلاّ أن هابرماز جنح إلى تعميم رجحان تأثير الحداثة على الشباب داخل الأسواق المفتوحة من خلال تحريك طموحاتهم المكلفة نحو الترقي والأدوات الإستهلاكية المعولمة والهجرة. وأغفل أن استعصاء بلوغ هذه الطموحات في الأسواق الفقيرة المفتوحة يخلق في المقابل لدى الشباب أيضاً مناخاً نفسيا وثقافياً ملائماً لمعارضات دينية و أواتنية منفعلة نفسياً وثقافياً على الحداثة الرأسمالية المفرطة في تعويق تنمية مواردهم البشرية وغير البشرية في البلدان الفقيرة تحت رايات الأصوليات الإسلامية المتوسعة.
لقد ساهم في تداخل السجالات النظرية ـ المنهجية حول العلاقة بين المجتمع الكبير والمجتمع المحلي. تمرس الإعلام الفضائي والإلكتروني في تسهيل الإتصال وفي التمكن من إزاحة التناقض في وعي الأفراد من حقل آليات الفعل الإقتصادي ـ السياسي المُحدِّد لعيشهم في ظل الأسواق المعولمة ، ولو في نهاية التحليل كما يقول لوي ألتوسير ، إلى حقل ظواهر انفعالاتهم الثقافية ـ السلوكية اليومية المهيمنة في مجتمعاتهم المحلية حيث يعجزون عن تجاوز الإنفعال إلى التملك النظري لتلك الآليات. إنها الظواهر الماثلة في زيف الوعي المُعلن منه والمكبوت لدى الجماعات المختلفة في انتماءاتها القرابية أو الطائفية أو الإتنية المشدودة إلى التطرف المموِّه للفقر والتهميش. وقد برزت الميول إلى المقاربات الميكروسوسيولوجية خاصة بعد الانهيار السو؟ـياتي وأفول النهج الكلياني القائل بالحتمية التاريخية. وبرز في المقابل الاعتماد على المقاربة الاتنوميتودولوجية القائمة على النفاذ عبر التعبيرات الثقافية الخاصة باللغة المحلية للوصول إلى فهم النظام الإجتماعي الكامن في لاوعي الجماعة.
المجددون الوظائفيون وإذا كانت المواجهة النظرية والسياسية في إطار الأبحاث السوسيوانتروبولوجية قد تحولت مع مدرسة فرنكفورت إلى مواجهة نظرية أعقد. بعد أن شكل تيار هذه المدرسة خروجا على حصرية المقاربة الماكروبنيوية المادية التاريخية ونقضا للمقاربة الوضعية التجريبية المقتصرة على تقنيات التصنيف الإحصائي، إلاّ أن الأهم في ظهور هذا التيار المتمركس هو انه أدى إلى استنهاض وتبلور تيار ميكروسوسيولوجي معارض له سمّي بتيار مدرسة شيكاغو كان ابرز رواده (Florian ;Znaniecky et Georges Simmel) . وهو تيار قصر مقارباته الثقافوية والبسيكوسوسيولوجية ، بين الحربين العالميتين، على الابحاث التجريبية والملاحظة بالمشاركة لاوضاع الجماعات المنحرفة والمعرضة والمهاجرة في احياء المدن الاميركية في حدود البنية المحلية (Communaute) باستقلال عن تأثيرات المجتمع الكبير عليها. وكانت المدن الصناعية الاميركية الكبرى (Middletown) قد شهد ت بعد الحرب الأولى تزايدا للفرز الطبقي البيئوي الحاد داخلها و ظهورا لمناطق وجماعات محلية متأزمة اجتماعياً انتشرت فيها ظواهر الإقصاء الاجتماعي الحاد والزمر المافياوية. ظواهر رجحت مجتمعة ميول الباحثين الوظائفيين الى تعديل مقاربتهم باتجاه التركيز في تفسير هذه الظواهر على تفاعل الأفراد داخل المجتمع المحلي وحسب .
ولذلك رأى أنصار مدرسة شيكاغو أن فهم هذه الظواهر ليس ممكنا لا من خلال المحدّدات الطبقية الماكرواجتماعية ولا من خلال مقاربات علم الإجتماع التطبيقي الإحصائي. وتعزّزت هذه المقاربات التي شاعت موجتها بين الحربين معتمدة من قبل الإعلام الموجه بهدف فهم عفوية الآراء المباشرة للجنود اتجاه الحرب و آراء العمال اتجاه الشركات بغية معاودة العمل على إعادة تكوين آرائهم لصالح التعبئة الحربية ولصالح الشركات، دونما اعتبار للأبعاد الثقافية المرتبطة بالمضامين الأخلاقية والميول النفسية الاجتماعية المقبولة عموما على صعيد الحس المشترك للجماعة المحلية المستجوبة، فيختزل الفرد المستجوب إلى واحد من مكونات شخصيته معزولا عن مكوناتها الأخرى المندمجة ثقافيا بشكل أو بآخر في مجتمعها المحلي.
وتعززت المقاربة الميكروسوسيولوجية لمدرسة شيكاغو مع تبلور الاتجاه الوظائفي الذي روّج له تلكوت بارسونز ولا سيما بعد صدور كتابه المرجع عام ١٩٥١ تحت عنوان »النظام الاجتماعي« . كما وتعززت هذه المقاربة بفضل المدارس الميكروثقافوية التي ندعو إلى التوقف أمام المدلولات الملاحظة مباشرة في التعبيرات والممارسات اليومية وفي تجارب الأفراد وذلك في إطار ما يسمى بالسوسيولوجيا الفينومينولوجية. وقد تبلورت، هذه المدارس الميكروسوسيولوجية في ما سمي لاحقا بالاتنوميتودولوجيا. وذهب رواد هذه المدرسة وأبرزهم (Harold Garfinkel et Aaron Cicourel) إلى تجاوز الستاتيكية الوظائفية في مفهوم النظام القائلة بدينامية توازنه الداخلي التلقائي عن طريق إتاحته لفرص الحراك الاجتماعي أمام الأفراد والى مخالفة دوركهايم في اعتبار الظواهر الاجتماعية أموراً خارجة عن إرادة الافراد. لا بل دعا الاتنوميتودولوجيون في مقاربتهم إلى التركيز على الاتنوغرافيا أي على الطرق الشعبية الرائجة في التعبير لدى الجماعة وفي استكشاف جذور العقلانية المحلية سواء للتعرف على الممارسات العادية للحياة اليومية وتعبيرات التواصل أو لفهم الأمور المستغربة(٣) . وأضيفت إلى الميكرو سوسيولوجيا الثقافوية لمدرسة شيكاغو ما سمي بالمدرسة التفاعلية Interactionnisme ) القائلة بان الظواهر الاجتماعية ما هي إلا نتائج لتفاعلات القادة والفاعلين المتشابكين داخل المجتمع المحلي ليشكلوا النظام الاجتماعي. كما وتُضاف إلى المدرستين السابقتين، المندرجتين في ما يسمى بسوسيولوجيا الأفراد، مدرسة الفردانية الممنهجة (Individualisme méthodologique) التي ترفض القول بالحتمية الماكروبنيوية، و تعرّف الظاهرة الاجتماعية إنها حصيلة مجموعة أفعال وسلوكيات لأفراد عقلانيين . وكان ابرز روادها ريمون بودون الذي يرى أن الأفراد يمارسون اختياراتهم آخذين بالاعتبار ضغوط الوسط الاجتماعي، وكل فرد يجد نفسه أمام حصيلة الأرباح أو الخسائر المترتبة على اختياره المتاح في وسطه.
ثالثاً: المقاربات الميكروبنيوية التكوينية التي تربط بين أفعال الأفراد وضرورات البُنى
(Structuralisme génétique):
في مقابل تيار الميكروسوسيولوجيا امتمركسة لرواد مدرسة فرانكفورت ، التي تجاوزت المقولة الماركسية التقليدية حول التفسير بحتمية التحديد الماكرواقتصادي للتغيير في المجتمع، تبلورت خلال الثمانينيات ميكروسوسيولوجيا متمركسة نقدية جديدة تميزت فيها مقاربة بيار بورديو بكونها تعتمد في بنيويتها التكوينية منحى لا يرى في تفاعل الأفراد وممارساتهم داخل النظام الميكروثقافي المحلي تكيفاً سلبياً منهم مع القواعد التي يفرضها عليهم وحسب بل يرى أيضاً ان هذا التفاعل يتاثر بميلهم الواعي أو غير الواعي إلى مقاربة الربح والخسارة في كل سلوك تفاعلي. بمعنى أنها مقاربة تتجاوز ميول الأفراد إلى تحليل عقلاني للعوامل الماكروبنيوية العائدة إلى الإختلافات الطبقية للرساميل الثقافية والاجتماعية المتاحة للأفراد في عائلاتهم (٤). إنها مقاربة تتجاوز وصف التفاعل الثقافوي في الواقع المحلي إلى محدّداته الطبقية المؤشرة غالبا و سلفا إلى حدود فرص تغييره.
وقد ربط بورديو بين التفاعل الثقافي داخل بنية المجتمع المحلي الذي يجري في إطار ما يسميه »لعبة العنف الرمزي«. هذا العنف المرتبط بكل سلطة تتوصل إلى فرض شرعية معانيها ومقاصدها مموهة بموازين القوة التي »تؤسس لقوتها« »وتشرعن تأثيرها الذي يختلف بين فرد وآخر باختلاف رأسماله الثقافي المتمثل بما يتوفر له من مركز اجتماعي ونوعية ومستوى تعليم وثقافة مميزين. وتجدر الإشارة إلى أن هذا التأثير يختلف أيضاً باختلاف الثقافات المحلية (Sous cultures) التي تختلف في ما بينها من حيث انفتاح ومرونة كل منها «. »وفي الثقافات المحلية يختلف استعداد كل فرد لعملية التكيف مع الأوضاع المتغيرة والقوانين والقيم والمعتقدات التي يخضع لها ومدى ملاءمتها لمصالحه كما يراها هو أو كما يراها عنه القادة في ثقافته المحلية«.
وظهرت تفرعات نظرية مشابهة في الميكروسوسيولوجيا النقدية تربط ما بين أفعال الأفراد وسلوكياتهم من جهة وما بين التأثير الضاغط عليهم في رأسمالية ما بعد الحداثة فتعطـل ذواتهم كما يقول يورغن هابرماز (٥) ويصبح تحررهم من ضغوطها لا يقوم على الثورة وعلى صراع الطبقات بقدر ما يقوم على التحرر من مفاعيل الإعلام الإتصالي اليومي الذي يركز على عقلانية عملية يتحكم من خلالها بتنشئة الأفراد فيتعرفون على بعضهم من خلاله وليس من خلال العودة إلى ذواتهم. إنه الوعي الذي يتحكم، في بنيوية هابرماز، بالوجود الاجتماعي وهذا ما لاحظناه في توجه رواد مدرسة فرنكفورت وليس العكس كما في الطروحات الماركسية التقليدية.
يرى هابرماز أن الإعلام الموجه من مراكز النيوليبرالية ومن الفضائيات المحليـة، المرتهنة لمصادر إمدادها الإعلامي الاحتكاري العابر للقارات، لم يؤدِ إلى تحريك الاختلافات الإتنية والثقافية للجماعات في المجتمعات الغنية وإلى تهديد الطابع الإمبريالي لدولها . هذه الدول التي وضعت حدود أمنها الاقتصادي والسياسي القومي داخل حدود الأسواق والمجتمعات الفقيرة، و ساهمت بفعل تنامي القدرة الاستيعابية لاقتصادياتها الامبريالية بدفع الجماعات الوافدة إليها إلى التخفيف من تعلقها بفروقاتها وحساسياتها الاتنوثقافية كشرط للتنعم بفوائد الاندماج في ازدهار أسواقها العابرة للقارات، واضطرت هذه الجماعات الوافدة إلى تبني منظومة القيم المدنية التعاقدية بالإضافة إلى شرط تملك الأفراد ،مهما كانت مناشئهم ، لقدرات متميزة على صعيد الكفاءآت التقنية وإدارة الأعمال لاستثمارها في المنافسة المطلقة التي يفرضها قانون الربح. إلاّ أن الإعلام الإتصالي الرقمي الموجه الذي ساهم، كما يقول هابرماز، في التعريف الضروري والمفيد بالإختلافات والخصائص الثقافية لهوية الجماعات في المجتمعات الفقيرة ساهم في المقابل في تعطيل أي أمل بالسيادة الوطنية على موارد وأمن هذه المجتمعات.
وساهم أيضا في تهديد وحدة البلدان الفقيرة بعد أن وفر المساحات الفضائية للخطابات العصبوية الإلغائية. وأن الأكلاف العالية لهذا الإعلام الإتصالي الإحتكاري المجمهر ساهم في تلك البلدان، ومنها لبنان على سبيل المثال، بتوفير التقنيات المطلوبة لحصر تعددية الزعامة داخل الجماعة الطائفية الواحدة،
لقد بالغ الإعلام الاتصالي والفضائيات المرتهنة للإحتكارات الداخلية والخارجية بتضخيم الخصائص الثقافية للجماعات في البلدان الفقيرة فشجعها على الانغلاق داخل هوياتها العصبوية. وكان من نتيجة ذلك إتساع الترويج لثقافة الولاءات الزبائنية التي يقوم بها مفاتيح الانتخابات والمنظمات الأهلية التي تتولى تنظيم الخدمات الإغاثية بدل التنمية المتكاملة للموارد المحلية. إنها ثقافة تعوِّق الإرتقاء إلى وعي الشروط السياسية والمدنية المحلية والوطنية للتنمية البشرية.
وتُضاف إلى صعوبة حصر المفاعيل المتزايدة للإعلام الإتصالي في المجتمع المحلي الذي يصفه هابرماز، صعوبة ثانية تُلاحظ في مجتمعاتنا المحلية العربية عامة واللبنانية خاصة، ناجمة عن الإزدواج في لغة الإتصال المشتركة داخل الجماعة المحلية (Communauté). هذا الازدواج الذي تعتمده غالبية الناس ليتمكنوا من تحمل أشكال معاناة تهميشهم وكبتها معتمدين لغة التهادن. إنها اللغة التي ترجح داخلها غالباً تعبيرات التوافق المُعلن على تعبيرات التحسس والتوتر المستتر. وهي لغة معتمدة احيانا كثيرة لاستمرار الأمان في العيش المشتـرك بين الفئات المتعصبة، تستبعد الشفافية وتعتمد نواميس التقية أو الإســتتار بالمألــوف كما يروّج في أوساط الفئات المتعصبة داخل الطوائف اللبنانية. أو هي لغة »تقبيل اليد التي لا قدرة على عضها«. ولهذا فهي لغة لا تقوى تقنية الاستمارة على سبر أغوار تعبيراتها كمثل تقنية الملاحظة من خلال المشاركة بتفاصيل العيش، كما تقترحه السوسيولوجيا الفينومينولوجية، في دورة حياة كاملة حيث يجري يومياً تبادل التعبيرات التقليدية المألوفة والمداورة حولها.
ولهذا يطرح هابرماز »التساؤلات حول مدى ملاءمة المفاهيم وتقنيات المقاربة مع الجماعات المحلية وحول ارتباط هذه الملاءمة بمدى التفاعل مع لغة التواصل اليومية المألوفة محلياً. هذه اللغة التي هي أساس للعيش المشترك ولنظام التواصل في المجتمعات المحلية، ولا سيما الريفية منها، كما يقول ليـ؟ـي شتراوس. ففي هذه اللغة تبرز التعبيرات الثقافية المألوفة التي تطال مواقع الدين والسلطة والمرأة والملكية. وهي التعبيرات التي ترتدي غالباً طابع التورية عبر الأمثال الشعبية أو المزاح أو النكات. وهي التي يمكن إدراجها في ما يُسميه هابرماز بـ»الفعل الإتصالي« (L?agir communicational). أو فعل التنشئة الذي بات يهيمن عبر الإعلام الرقمي داخل نظام المجتمع وبات يحكم تبلور الذاتيات الفردية الفاعلة منها والمنفعلة«.
١ - N. Herpin «Les sociologies americains et le siècle »Paris, PUF, .1973 P: 156.
٢ - J. Habermas «Théorie de l"agir communicationnel» Paris Fayard .1981 Tome .1 P: 115 .
٣ - G. Lapassade «L"Ethnomethodologie» Paris, Méridiens Klinclcsieck, .1991 pp: 73 -74
٤ - P. Bourdieu, J.C. Passeron,«Les Heritiers » Paris, Minuit, .1964 pp : 30 - 34 .
٥ - J. Habermas «Théorie de l"agir communicationnel« OP.cit. P: .116
أحمد بعلبكي ([) كاتب لبناني - السفير- 29\11\2008
0 تعليقات::
إرسال تعليق