«كل حكم ديكتاتوري في العالم يدعي أنه يتصرف باسم الشعب». (هارولد هـ. غرين)
إذا كان جزء لا بأس به من أبناء الشعب السوري قد فوجئ بأسلوب تعامل النظام في دمشق مع المظاهرات الشعبية، التي غطت واقعيا معظم المحافظات السورية خلال الأسابيع الماضية، فإن هذا الأسلوب القمعي لم يفاجئ اللبنانيين إطلاقا. ثم إن ثمة شعورا سائدا في لبنان اليوم أن أزمة تشكيل الحكومة اللبنانية الموعودة مرتبطة، عضويا، بما يحدث في سوريا.
فمما لا شك فيه أن الصلات التي تربط لبنان وسوريا أوثق بكثير من الصلات التي تربط أيا من الكيانين بباقي الأقطار العربية الشقيقة. وعلى امتداد التاريخ تبادلت أجزاء المساحة التي يقوم فيها الكيانان الحاليان المنافع والأضرار، بل وشهدت أمواجا من التبادل السكاني.
وإذا كان النظام الحالي في دمشق يدعي ضمن «منجزاته» أمرين هما: أنه «ممانع» ومناوئ لإسرائيل، وأنه فوق الانقسامات الطائفية؛ بعكس حال النظام اللبناني، فالواقع أن «الحالة الإسرائيلية» و«الحالة الفئوية» كانتا، وما زالتا، من الظواهر التي اخترقت قلب الفكر والممارسة السياسية في الكيانين.
فعلى صعيد «الحالة الإسرائيلية» يمكن القول، بصراحة، إنه لا فارق يذكر بين وضعي سوريا ولبنان. ولئن أخذ كثيرون في سوريا على لبنان بين عامي 1948 و1975 اقتناع نفر من زعمائه بمقولة «قوة لبنان في ضعفه»، وفي علاقاته الدولية، فإن صمت دمشق عن استمرار احتلال هضبة الجولان - باستثناء استقوائها بـ«جبهة» لبنان - يشير بوضوح إلى «ضعف» لا جدال فيه.
أما عن «الحالة الفئوية»؛ فالظاهر حتى الآن أن طريقة معالجة دمشق لمشكلاتها الفئوية أسوأ حتى من الانقسام اللبناني. ذلك أن لبنان تعايش مع تعدديته واعترف بها دستوريا، ومارسها سياسيا وإداريا. بل، ووصل في عدة مفاصل إلى حدود عقد تفاهمات داخلية، حتى في عز استعار حربه «الأهلية» بين 1975 و1990، وهذا قبل أن يجهضها في كل مرة ما اصطلح على تسميته بـ«الطرف الثالث». ومع الأسف، كان «الطرف الثالث»، غير مرة، جهة محسوبة سياسيا وأمنيا على دمشق.
ثم إن نصيبا لا بأس به من الحقن الفئوي والتحريض الذي سبق حرب 1975 - 1990 في لبنان، ما كان بعيدا عن تنظيمات لبنانية وفلسطينية، «دمشقية» الإيحاء من نوعية تنظيم «الصاعقة» ذي التاريخ المشهود قبل تلك الحرب وإبانها وما بعدها. كذلك فإن أصحاب الذاكرة القوية من اللبنانيين يتذكرون جيدا أول من قال عبارة «لبنان الأخضر سنحوله إلى أحمر!».
ومن ناحية أخرى، يدرك اللبنانيون اليوم – كما بالأمس – أنهم بعدما عاشوا في ظل هيمنة دمشق الأمنية المباشرة على مقدراتهم على امتداد ثلاثة عقود.. ها هم الآن يغرقون في مستنقع أكثر طائفية وأشد تعصبا وكراهية. وهذا يعني أن تجربة هيمنة دمشق على الساحة اللبنانية طوال العقود الثلاثة فاقمت الأزمة الطائفية ولم تعالجها.
لماذا يا ترى؟
هناك خبثاء كانوا دائما مع الرأي القائل إن النظام في دمشق أخفق أصلا في معالجة الأزمة الطائفية أو الفئوية داخل سوريا، فكيف يتوقع منه أن يعالج طائفية جيرانه وفئويتهم في كيانات مأزومة كلبنان والعراق؟
طبعا هذا الرأي كان مرفوضا على مستوى الخطاب الرسمي السوري، سواء في التصريحات السياسية للمسؤولين، أو «بروباغندا» الأبواق الإعلامية الرسمية وشبه الرسمية السورية داخل سوريا ذاتها، أو في لبنان. ولكن اليوم، بعد أسابيع على بداية انتفاضات الشارع السوري – مهما بلغ حجمها – يتبين للمراقب الجاد أن النظام في دمشق أخفق حقا في معالجة أزمته الداخلية.
تكرارا، بصرف النظر عن حجم الانتفاضة.. المتسعة جغرافيا من القامشلي إلى اللاذقية ومنها إلى درعا، وما بينها من المدن والضواحي والبلدات في قلب البلاد، نجد أن واقع الإخفاق مؤكد. فبعد أكثر من 40 سنة على «الحركة التصحيحية» التي حملت النظام الحالي، بجيليه الاثنين، إلى السلطة، يعترف النظام بأن البديل الوحيد له هو الفوضى والفتنة والطائفية المتطرفة. وهذا الاعتراف في قاموس السياسة يعني الفشل الذريع في بناء سلم أهلي حقيقي يسمو على النعرات والحساسيات والظلامات الفئوية.
لقد أتيحت عدة محطات مهمة أمام النظام لكي يتعلم من أخطائه. وكانت أولاها تجربة حماة في مطلع فبراير (شباط) عام 1982، التي عالجها، كما هو معروف، بقوة السلاح.
ثم وقعت أحداث القامشلي في مارس (آذار) عام 2004، ومجددا وجد النظام أن الحل الأمثل هو الحل الأمني.
وبعد سنة تقريبا في 14 فبراير 2005 اغتيل رفيق الحريري ورفاقه في لبنان، وأدى توجيه قطاع واسع من اللبنانيين الاتهام إلى دمشق، مما اضطر النظام إلى سحب القوات السورية من لبنان تحت ضغط دولي غير مسبوق. وردت دمشق بمضاعفة الضغط على لبنان عبر أدواتها وحلفاء حلفائها، وعلى رأسهم حزب الله. وانتهى الأمر إلى إنجاز حزب الله ما كان، عمليا، انقلابا مسلحا على السلطة الشرعية اللبنانية المنتخبة.
الرئيس بشار الأسد أقر في أحد أول تصريحاته بعد سحبه القوات السورية من لبنان بـ«ارتكاب دمشق أخطاء في لبنان»، غير أن أحدا لم يُحاسَب على هذه الأخطاء.. إلا الشعب اللبناني.
واليوم بعد مرور أسابيع على انتفاضة الشارع السوري، نجد أنفسنا كمراقبين أمام الحقائق التالية:
أولا: الخطاب السياسي والإعلامي السوري الرسمي، يتحدث عن «مؤامرة أصولية» مسلحة. لكنه، بينما يركز على سقوط قتلى وجرحى من القوات المسلحة وقوات الأمن، يتجاهل تقريبا سقوط قتلى مدنيين.
ثانيا: تتهم دمشق الإعلامين العربي والدولي – كله فعليا – بالتآمر لتشويه حقيقة ما يجري، لكنها تصر على حرمان الإعلاميين العرب والأجانب من حرية الحركة.
ثالثا: على الرغم من الإعلان عن إلغاء حالة الطوارئ، بما فيها منع التظاهر، فإن وزارة الداخلية السورية تصدر بيانات تحض فيها المواطنين على لزوم بيوتهم.
رابعا: تواصل السلطات اعتماد القوة العسكرية في تصديها للاحتجاجات والمعارضة، التي بعكس وضع حماة، ما عادت محصورة بمنطقة واحدة من البلاد.
إزاء هذا الواقع، ولمن يهمه الأمر، من الصعب جدا أن يغير النظام في دمشق أسلوب تعامله مع الوضع الداخلي السوري. وعبر الحدود – غير المرسّمة – مع لبنان من المستبعد جدا سماح أدوات هذا النظام وحلفاء حلفائه بقيام حكومة لبنانية تستطيع أن تمارس دورها الطبيعي بالحكم.
إياد أبو شقرا – الشرق الأوسط 9 مايو 2011
إذا كان جزء لا بأس به من أبناء الشعب السوري قد فوجئ بأسلوب تعامل النظام في دمشق مع المظاهرات الشعبية، التي غطت واقعيا معظم المحافظات السورية خلال الأسابيع الماضية، فإن هذا الأسلوب القمعي لم يفاجئ اللبنانيين إطلاقا. ثم إن ثمة شعورا سائدا في لبنان اليوم أن أزمة تشكيل الحكومة اللبنانية الموعودة مرتبطة، عضويا، بما يحدث في سوريا.
فمما لا شك فيه أن الصلات التي تربط لبنان وسوريا أوثق بكثير من الصلات التي تربط أيا من الكيانين بباقي الأقطار العربية الشقيقة. وعلى امتداد التاريخ تبادلت أجزاء المساحة التي يقوم فيها الكيانان الحاليان المنافع والأضرار، بل وشهدت أمواجا من التبادل السكاني.
وإذا كان النظام الحالي في دمشق يدعي ضمن «منجزاته» أمرين هما: أنه «ممانع» ومناوئ لإسرائيل، وأنه فوق الانقسامات الطائفية؛ بعكس حال النظام اللبناني، فالواقع أن «الحالة الإسرائيلية» و«الحالة الفئوية» كانتا، وما زالتا، من الظواهر التي اخترقت قلب الفكر والممارسة السياسية في الكيانين.
فعلى صعيد «الحالة الإسرائيلية» يمكن القول، بصراحة، إنه لا فارق يذكر بين وضعي سوريا ولبنان. ولئن أخذ كثيرون في سوريا على لبنان بين عامي 1948 و1975 اقتناع نفر من زعمائه بمقولة «قوة لبنان في ضعفه»، وفي علاقاته الدولية، فإن صمت دمشق عن استمرار احتلال هضبة الجولان - باستثناء استقوائها بـ«جبهة» لبنان - يشير بوضوح إلى «ضعف» لا جدال فيه.
أما عن «الحالة الفئوية»؛ فالظاهر حتى الآن أن طريقة معالجة دمشق لمشكلاتها الفئوية أسوأ حتى من الانقسام اللبناني. ذلك أن لبنان تعايش مع تعدديته واعترف بها دستوريا، ومارسها سياسيا وإداريا. بل، ووصل في عدة مفاصل إلى حدود عقد تفاهمات داخلية، حتى في عز استعار حربه «الأهلية» بين 1975 و1990، وهذا قبل أن يجهضها في كل مرة ما اصطلح على تسميته بـ«الطرف الثالث». ومع الأسف، كان «الطرف الثالث»، غير مرة، جهة محسوبة سياسيا وأمنيا على دمشق.
ثم إن نصيبا لا بأس به من الحقن الفئوي والتحريض الذي سبق حرب 1975 - 1990 في لبنان، ما كان بعيدا عن تنظيمات لبنانية وفلسطينية، «دمشقية» الإيحاء من نوعية تنظيم «الصاعقة» ذي التاريخ المشهود قبل تلك الحرب وإبانها وما بعدها. كذلك فإن أصحاب الذاكرة القوية من اللبنانيين يتذكرون جيدا أول من قال عبارة «لبنان الأخضر سنحوله إلى أحمر!».
ومن ناحية أخرى، يدرك اللبنانيون اليوم – كما بالأمس – أنهم بعدما عاشوا في ظل هيمنة دمشق الأمنية المباشرة على مقدراتهم على امتداد ثلاثة عقود.. ها هم الآن يغرقون في مستنقع أكثر طائفية وأشد تعصبا وكراهية. وهذا يعني أن تجربة هيمنة دمشق على الساحة اللبنانية طوال العقود الثلاثة فاقمت الأزمة الطائفية ولم تعالجها.
لماذا يا ترى؟
هناك خبثاء كانوا دائما مع الرأي القائل إن النظام في دمشق أخفق أصلا في معالجة الأزمة الطائفية أو الفئوية داخل سوريا، فكيف يتوقع منه أن يعالج طائفية جيرانه وفئويتهم في كيانات مأزومة كلبنان والعراق؟
طبعا هذا الرأي كان مرفوضا على مستوى الخطاب الرسمي السوري، سواء في التصريحات السياسية للمسؤولين، أو «بروباغندا» الأبواق الإعلامية الرسمية وشبه الرسمية السورية داخل سوريا ذاتها، أو في لبنان. ولكن اليوم، بعد أسابيع على بداية انتفاضات الشارع السوري – مهما بلغ حجمها – يتبين للمراقب الجاد أن النظام في دمشق أخفق حقا في معالجة أزمته الداخلية.
تكرارا، بصرف النظر عن حجم الانتفاضة.. المتسعة جغرافيا من القامشلي إلى اللاذقية ومنها إلى درعا، وما بينها من المدن والضواحي والبلدات في قلب البلاد، نجد أن واقع الإخفاق مؤكد. فبعد أكثر من 40 سنة على «الحركة التصحيحية» التي حملت النظام الحالي، بجيليه الاثنين، إلى السلطة، يعترف النظام بأن البديل الوحيد له هو الفوضى والفتنة والطائفية المتطرفة. وهذا الاعتراف في قاموس السياسة يعني الفشل الذريع في بناء سلم أهلي حقيقي يسمو على النعرات والحساسيات والظلامات الفئوية.
لقد أتيحت عدة محطات مهمة أمام النظام لكي يتعلم من أخطائه. وكانت أولاها تجربة حماة في مطلع فبراير (شباط) عام 1982، التي عالجها، كما هو معروف، بقوة السلاح.
ثم وقعت أحداث القامشلي في مارس (آذار) عام 2004، ومجددا وجد النظام أن الحل الأمثل هو الحل الأمني.
وبعد سنة تقريبا في 14 فبراير 2005 اغتيل رفيق الحريري ورفاقه في لبنان، وأدى توجيه قطاع واسع من اللبنانيين الاتهام إلى دمشق، مما اضطر النظام إلى سحب القوات السورية من لبنان تحت ضغط دولي غير مسبوق. وردت دمشق بمضاعفة الضغط على لبنان عبر أدواتها وحلفاء حلفائها، وعلى رأسهم حزب الله. وانتهى الأمر إلى إنجاز حزب الله ما كان، عمليا، انقلابا مسلحا على السلطة الشرعية اللبنانية المنتخبة.
الرئيس بشار الأسد أقر في أحد أول تصريحاته بعد سحبه القوات السورية من لبنان بـ«ارتكاب دمشق أخطاء في لبنان»، غير أن أحدا لم يُحاسَب على هذه الأخطاء.. إلا الشعب اللبناني.
واليوم بعد مرور أسابيع على انتفاضة الشارع السوري، نجد أنفسنا كمراقبين أمام الحقائق التالية:
أولا: الخطاب السياسي والإعلامي السوري الرسمي، يتحدث عن «مؤامرة أصولية» مسلحة. لكنه، بينما يركز على سقوط قتلى وجرحى من القوات المسلحة وقوات الأمن، يتجاهل تقريبا سقوط قتلى مدنيين.
ثانيا: تتهم دمشق الإعلامين العربي والدولي – كله فعليا – بالتآمر لتشويه حقيقة ما يجري، لكنها تصر على حرمان الإعلاميين العرب والأجانب من حرية الحركة.
ثالثا: على الرغم من الإعلان عن إلغاء حالة الطوارئ، بما فيها منع التظاهر، فإن وزارة الداخلية السورية تصدر بيانات تحض فيها المواطنين على لزوم بيوتهم.
رابعا: تواصل السلطات اعتماد القوة العسكرية في تصديها للاحتجاجات والمعارضة، التي بعكس وضع حماة، ما عادت محصورة بمنطقة واحدة من البلاد.
إزاء هذا الواقع، ولمن يهمه الأمر، من الصعب جدا أن يغير النظام في دمشق أسلوب تعامله مع الوضع الداخلي السوري. وعبر الحدود – غير المرسّمة – مع لبنان من المستبعد جدا سماح أدوات هذا النظام وحلفاء حلفائه بقيام حكومة لبنانية تستطيع أن تمارس دورها الطبيعي بالحكم.
إياد أبو شقرا – الشرق الأوسط 9 مايو 2011
0 تعليقات::
إرسال تعليق