كمال جنبلاط مناضل شرس جمع بين مثالية الفكر وواقعية السياسة:
"الثوري الحقيقي يزيد الفرح في هذا العالم... فالأخلاق والثورة تسيران جنباً إلى جنب"
كمال جنبلاط، كان رجلاً تسكنه روح الأرض، وكان من الزعماء والرجالات النادرين في هذا الوطن العربي: ملأ الدنيا وشغل الناس، دائم الحضور الثقافي، ومن أصحاب النظريات والأفكار التي حاولت ملامسة العالم المثالي. في ذكرى استشهاده الثلاثين، لا بد من التوقف في محطة نعرض فيها لحقبة أمضاها هذا الرجل في سعي إلى تجلي الفكر في الواقع والروح في الإنسان.
صبحي منذر ياغي
كان المطر ينهمر بغزارة في بلدة المختارة الشوفية، عندما وضعت السيدة نظيرة فارس جنبلاط مولودها كمال في السادس من كانون الأول 1917، فغمرت الفرحة زوجها فؤاد جنبلاط، الذي كان مديراً لمنطقة الشوف بقرار عثماني.
وكان قدر الصبي كمال أن يعيش يتيماً بعد اغتيال والده في السادس من آب 1921، على أيدي جماعة شكيب وهاب. مارست الست نظيرة دوراً مميزاً في تربية ابنها كمال ورعايته إلى جانب شقيقته ليندا، وأوكلت إلى المعلم خليل سمعان تدريسه مبادئ اللغة العربية والحساب، والى المربية ماري سلوم، الحائزة إجازة تعليمية من مدرسة اللعازرية في حلب، تدريس كمال وليندا اللغة الفرنسية، وبقية العلوم الأخرى.
في الأول من تشرين الأول 1926 أرسِل كمال إلى مدرسة الآباء اللعازاريين في عينطورة، بنصيحة من صديق العائلة المطران أوغسطينوس البستاني وكانت المدرسة بإدارة الأب إرنست سارلوت.
تلميذ مجتهد ومميز
بدأ كمال الانكباب على الدراسة منذ الأيام الأولى لوصوله إلى عينطورة، وكان من الطلاب المجتهدين بشهادة معلميه، ومن الذين تميزوا بذكائهم الخارق.
في حزيران من العام 1928 حاز كمال الشهادة الابتدائية بفرعيها الفرنسي والعربي. وانتسب في 17 كانون الثاني 1934 إلى منظمة الكشافة الفرنسية التي أسستها مدرسة عينطورة لجعل التلامذة يعتمدون على أنفسهم.
في المرحلة الأولى من البكالوريا، اظهر كمال ميلا إلى العلوم الطبيعية وعلم الإحياء والفلسفة، وفي صيف 1936 أنهى في وقت واحد منهجي الدراسة الثانوية الفرنسي واللبناني، ونال شهادة البكالوريا للمرحلة الأولى في العلوم والآداب. علماً أنه بدءاً من منتصف الثلاثينات، بدأ كمال يعيش نظاماً فرضه على نفسه، من حيث تعمقه في الأفكار الروحانية والفلسفية، واللجوء إلى ما يشبه العزلة للتأمل والتفكير، وبدأ أولى محاولاته الصحافية بالكتابة في مجلة "المعرض" التي كان يصدرها ميشال زكور.
في تشرين الأول من العام 1936، بدأ المرحلة الثانية من البكالوريا، ويقول الأب كوركيه "أن كمال أبدى في الصفوف المتقدمة اهتماماً معمقاً بتاريخ المسيحية، وبدأ بقراءة الإنجيل، ومؤلفات الفلاسفة الكاثوليك كالقديس أوغسطينوس، وألبرتو الكبير، وتوما الأكويني وتركت هذه الأفكار أثرها الكبير في نفسه وأحدثت تحولات في مفاهيمه ونظرته ونمط حياته". ورغم ميل جنبلاط إلى أن يصبح طبيباً أو عالماُ، لكنه نزل عند رغبة والدته الست نظيرة، والتحق بكلية الحقوق في جامعة السوربون في فرنسا عام 1937، وهناك اطلع على كثير من الأفكار الفلسفية واتجاهات الآداب الفرنسية، لكنه عاد من فرنسا إلى لبنان بعد عامين بشهادتين في علم الاجتماع والأخلاق. أما سبب عدم إكماله علومه في فرنسا فيعود إلى الأجواء المشحونة في أوروبا والتي كانت تنذر بنشوب الحرب العالمية الثانية.
هكذا التحق جنبلاط بكلية الحقوق في جامعة القديس يوسف (اليسوعية) في بيروت وأكمل دراسته في الحقوق، وبدأ تدرجه لمدة عام في مكتب المحامي إميل إده.
وبعدما وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها، انصرف جنبلاط إلى مساعدة الفقراء، فأسس عام 1942 جمعية استهلاكية في الشوف لشراء القمح من سوريا وفلسطين، وعمد إلى افتتاح مختبرات كيميائية في بلدة المختارة لاستخراج الصودا الكاوية بالتحليل الكهربائي من أجل تأمين مستلزمات الصابون. ولعل اهتمام جنبلاط بالمساكين والفقراء والكادحين يعود إلى تأثره بمذاهب الاشتراكيين الطوباويين.
الوزير والنائب
قبيل استقلال لبنان بفترة وجيزة انتخب جنبلاط نائباً عن جبل لبنان في صيف 1943، في انتخابات اشرف عليها الرئيس بترو طراد، والمندوب السامي الفرنسي جاك هيللو، والجنرال الإنكليزي إدوارد سبيرس. وكان الدروز قبل تلك الفترة بايعوا جنبلاط زعيماً خلفاً لابن عمه حكمت بك جنبلاط. في 14 كانون الأول 1946 عُيّن جنبلاط وزيراً للاقتصاد في حكومة رياض الصلح، التي عرفت بـ "حكومة الجبابرة" كما أسندت إلى جنبلاط في الوقت نفسه وزارتا الزراعة والشؤون الاجتماعية. وبين الانتداب وجلاء الجيوش الأجنبية عام 1946 بدأ جنبلاط نضالاته الأولى في سبيل إصلاح النظام السياسي نحو العدالة والديموقراطية، وبدأ بخوض معركته ضد الفساد والاختلاسات المعششة في دوائر الدولة. وينقل أحد أصدقاء جنبلاط قوله لسائقه سامي نمور منذ اليوم الأول لدخوله الوزارة: "إياك أن تقوم بعمل يسيء إلى سمعتك وسمعتي، ولا تظن أن كمال جنبلاط سيدافع عنك أو يحميك. يكفينا ما في هذا البلد من قبضايات".
وكان كمال جنبلاط أمضى الفترة التي سبقت دخوله المعترك السياسي في لقاءات وحوارات مع نخبة من كبار المفكرين والسياسيين، أمثال المفكر ميشال شيحا، الزعيم أنطون سعادة، الشاعر سعيد عقل، والأديب الشاعر أمين نخلة، وموريس وبيار الجميل، ونعمة ثابت... وغيرهم. وفي محاضرة له في "الندوة اللبنانية" بعنوان "رسالتي كنائب"، يحدد جنبلاط مهمته ودوره في القيادة السياسية بقوله: "... إن مهمة القائد السياسي المعاصر تبدأ من تحديث الديموقراطية في اتجاهين رئيسيين: الأول حرية الإنسان، والثاني المساواة الجوهرية الطبيعية بين البشر. أما اتجاه الحرية فيتجلى مقروناً بالمساواة الجوهرية، فما الفائدة من أن تقر للمرء حقه في الحياة والعيش عندما يصعب جداً على فئة كبيرة من الشعب أن تعيش؟... الحرية الشخصية، حرية القول، حرية الاجتماعات الهادئة، حرية الفكر، حرية العبادة، كل هذه الحريات جميلة، ولكن يجب أن نتمكن عملياً وواقعياً من التمتع بهذه الحقوق، وهذه الحريات: أعني أن نتمرس بالحرية الشخصية..." .
وأضاف: "... إن رسالتي كنائب تشمل الجوهر في تفهم وتفهيم الديموقراطية الصحيحة لمواطني اللبنانيين. هي في أن أعكس لهم، في تفكيري وشعوري وفي كتاباتي وفي عملي، شيئاً من هذه الروح الإنسانية الخلقية البناءة الانتظامية الرحبة التي يجب أن تسيطر على عقول الأفراد وأعمالهم، وعلى تصرفات الجماعة، فتجعل منهم جميعاً أو من أكثريتهم الساحقة على الأقل مواطنين أكفاء مخلصين... رسالة النائب في أن يشع من حوله هذا الاكتناه وهذا التكريم للشخصية البشرية من حيث هي غاية بحد ذاتها، وللحريات العامة التي ترتكز عليها الحرية الشخصية، حرية المناقشة، حرية الاجتماع، حق تأليف الجمعيات، حق العمل، وحق العيش... وفي هذا السياق تبرز بوضوح صورة النائب الشعبي (القائد السياسي): إنه باني الديموقراطية ومؤسس الدولة".
في الأول من أيار 1949، أعلن كمال جنبلاط ولادة الحزب التقدمي الاشتراكي الذي أسسه مع مجموعة من الشخصيات اللبنانية وهم: ألبير أديب، فريد جبران، الشيخ عبد الله العلايلي، فؤاد رزق، الدكتور جورج حنا، جان نفاع، جميل صوايا. وبدأ الحزب بالانتشار في معظم المدن والمناطق اللبنانية، وانتقل مؤسسوه من ترجمة أفكار الحزب الواردة في ميثاقه إلى مشاريع عمل سياسي وموضوعات لنضالات مرحلية ومقبلة. أصبح الحزب قوة سياسية مسموعة الكلمة، وبدأ خوض الصراع في جو المواجهة المتصاعدة مع النظام الحاكم الذي كان يضمر العداء للحزب التقدمي الاشتراكي ويعارض توجهاته السياسية والاجتماعية. وتعرض عدد من أعضاء الحزب للفصل من وظائفهم في الدوائر الحكومية، حتى أن السلطات رفضت قبول بعض المحازبين في الخدمة في الجيش والدرك. وتوجت الصراعات الخفية بين السلطة وجنبلاط بحادثة الباروك في 18 آذار 1951 وفيها سقط عدد من مناصري جنبلاط برصاص الدرك أثناء اجتماع تحضيري للانتخابات النيابية دعا إليه الحزب التقدمي، وقد أطلق جنبلاط على هذه الحادثة اسم "معمودية الدم"، واتهم الرئيس بشارة الخوري وشقيقه "السلطان سليم" بالتخطيط لها عبر تعليمات أعطيت لضابط الدرك بهيج شحوري.
"الجبهة الاشتراكية الوطنية"
أثناء التحضيرات للانتخابات النيابية عام 1951 اجتمع معارضو الشيخ بشارة الخوري من نواب وناشطين سياسيين وإعلاميين، ليوقعوا وثيقة المعارضة في آذار عام 1951، وتضمنت الوثيقة تسع نقاط أعدها الحزب التقدمي الاشتراكي، دعت إلى العمل والنضال من أجل تأمين سلسلة من المطالب الاجتماعية، وضمان الحريات. وفي أيار 1951 حددت هذه المعارضة برنامج عملها، وحملت اسم "الجبهة الاشتراكية الوطنية"، ضمّت: كمال جنبلاط وأنور الخطيب (عن الحزب التقدمي الاشتراكي)، وبيار اده (عن الكتلة الوطنية)، وغسان تويني (عن الحزب القومي بصورة غير معلنة، بسبب زج قيادة الحزب القومي في السجون، بعد إعدام زعيم الحزب أنطون سعادة في 8 تموز 1949)، وإميل بستاني، وديكران توسباط، وعبد الله الحاج. وتمكنت الجبهة من الفوز بعدد كبير من المقاعد الانتخابية في الانتخابات النيابية عام 1951. وكانت مقالة جنبلاط في جريدة "الأنباء"، في 30 أيار 1952 "جاء بهم الأجنبي فليذهب بهم الشعب" في مثابة البيان السياسي للثورة البيضاء التي أرغمت الرئيس بشارة الخوري على تقديم استقالته في أيلول من العام 1952. لكن وضع جنبلاط مع الرئيس الجديد كميل شمعون لم يكن أفضل حالا.
ويرى الدكتور خليل أحمد خليل "أن جنبلاط استمر في معارضته الشعبية العنيدة، فأنشأ "الجبهة الشعبية الاشتراكية"، ما بين 1953 و1954، وشارك في المؤتمر الوطني للأحزاب والهيئات، وعقد في بيروت أول مؤتمر للأحزاب الاشتراكية العربية. وفي العام 1956 وقف إلى جانب مصر عبد الناصر ضد العدوان الثلاثي، ثم قاد الثورة الوطنية المسلحة عامي 1957 و1958".
ويعتبر الشاعر نجيب جمال الدين، أن من أسباب الثورة التي قادها جنبلاط ضد حليفه القديم الرئيس كميل شمعون "قيام شمعون بتعطيل الحياة النيابية، والانفراد بالعمل، وإضعاف السلطة التشريعية بطغيان السلطة التنفيذية عليها. كذلك اطل عهد شمعون ومحور أنقرة – كراتشي كان البذرة لميثاق حلف بغداد، ولم يتوان الرئيس شمعون عن إعطاء أوامره لقوى الأمن بإطلاق النار على المتظاهرين في بيروت الذين كانوا ينادون بسقوط الأحلاف، فسقط حسان أبو إسماعيل من الحزب التقدمي الاشتراكي...".
أما الكاتبة الألمانية برناديت شينك فتعتبر "... أن العلاقة الشخصية بين جنبلاط وشمعون ساءت منذ تولي الأخير منصب رئيس الجمهورية، فلم يعط جنبلاط – كما كان يأمل – نفوذا أوسع على أمور الحكومة، وبالتالي إمكان تنفيذ برنامجه الاشتراكي الإصلاحي، كذلك لم يكن شمعون مستعدا لاستجابة مطلب جنبلاط بإجراء تحقيق شامل عن نشاطات (الرئيس بشارة) الخوري أثناء توليه منصبه...".
عام 1960 دخل جنبلاط مجلس النواب على رأس كتلة نيابية من 11 نائبا سماها "جبهة النضال الوطني"، وشارك في الحكم في عهد الرئيس شهاب كوزير للتربية، وفي وزارتي التصميم العام والأشغال... ثم بدأ عام 1965 تجربة "جبهة الأحزاب والشخصيات الوطنية والتقدمية"، التي ضمت: الحزب الشيوعي، حركة القوميين العرب، جبهة التحرير العمالي، إضافة إلى سياسيين مستقلين من بينهم معروف سعد، واللواء جميل لحود. وكان المنهج الفكري الذي جمع أطراف الجبهة التمسك بالأفكار الاشتراكية وفكرة القومية العربية في مفهومها الناصري.
عام 1967 شارك جنبلاط في الهيئات العربية والدولية (التضامن الآسيوي الأفريقي، مؤتمر الجزائر، مؤتمر الخرطوم، اتحاد كتاب آسيا وأفريقيا).
ويشير الدكتور خليل أحمد خليل إلى "أنه بعد حرب حزيران 1967 وقف جنبلاط إلى جانب مصر عبد الناصر مؤمناً بقدرة العرب على النصر، متعاطفا ومتضامنا مع النهوض الثوري للشعب العربي الفلسطيني. فقامت في لبنان اللجان والهيئات المساندة للعمل الفدائي، وخاضت نضالاتها البطولية في وجه قمع السلطة في الجنوب والبقاع وبيروت، ولاسيما يوم الثالث والعشرين من نيسان 1969 يوم الانعطاف اللبناني الفلسطيني نحو الثورة على الهزيمة السوداء في حزيران، وحين تشكلت الجبهة العربية المشاركة في الثورة الفلسطينية، انتخب كمال جنبلاط أمينا عاما لها".
ويقول الدكتور فؤاد شاهين في هذا الصدد "إن موقف كمال جنبلاط من الثورة الفلسطينية لم يكن موقفا انتهازيا ولا مصلحيا لأجل استخدام المقاومة الفلسطينية لتحقيق مآرب في السياسة اللبنانية... بل بالعكس كان يقدّم قضية الثورة على أي قضية داخلية منطلقا من الموقف القومي الصحيح بأن للثورة الفلسطينية حقا على كل العرب... فنتيجة لموقفه هذا انتخب رئيسا للجبهة العربية المشاركة في الثورة الفلسطينية".
في 25 تشرين الثاني 1969 شكل الرئيس رشيد كرامي حكومته التي حصل الحزب التقدمي فيها على حقيبتين وزاريتين، فكانت وزارة الداخلية لجنبلاط والموارد المائية والكهربائية لأنور الخطيب، وسجل جنبلاط أثناء توليه حقيبة الداخلية علامة فارقة في تاريخ السياسة اللبنانية، من حيث إيمانه بضرورة تفعيل العمل الحزبي في البلاد المشاركة، وذلك بموافقته على الترخيص للحزب الشيوعي وحزب البعث العربي الاشتراكي الموالي للعراق، ومنظمة حزب البعث الموالية لسوريا، وللحزب السوري القومي الاجتماعي، و"حركة 24 تشرين" برئاسة فاروق المقدم.
في 28 أيلول عام 1970 مات الرئيس جمال عبد الناصر، ووقع هذا الخبر على جنبلاط كالصاعقة، فتوجه إلى مبنى السفارة المصرية في الرملة البيضاء ليقدم تعازيه، ولم يتمالك نفسه وهو ينزل في المصعد، فأطلق العنان لدموعه بصمت وأحس برجفة تعتريه ودوار يصيبه. كان جنبلاط يرى في عبد الناصر بسمارك العرب، وقال في برقية أرسلها لعبد الناصر في 3 آب 1956: "إنني لا أخاف على جمال عبد الناصر من جمال عبد الناصر، ولا أخاف على مصر جمال عبد الناصر... لكني أخاف من الذين يصفقون "للبطل"، لكل بطل في الشرق المريض بانغلاق تعصبه... أخاف منهم وعليهم، أن يحولوا هدف المعركة وروح المعركة إلى غير ما هي عليه...".
الحرب اللبنانية
يعتقد عدد من الباحثين أن كمال جنبلاط أُرغم مكرها على المشاركة في الحرب اللبنانية، وكان يعتبر أن مشاركته فيها هي لإحباط ما كان يراه مؤامرة أميركية – إسرائيلية أخرجها هنري كيسنجر لتقسيم لبنان دويلات طائفية، فضلا عن سعي جنبلاط إلى تطبيق الإصلاحات الديموقراطية في النظام اللبناني والقضاء على الامتيازات السياسية والطائفية والحفاظ على الثورة الفلسطينية.
وفي مقابلة أجراها معه الصحافي الفرنسي فيليب لابوستيرل قال جنبلاط: "أنا لا أحب العنف وإجلالي لغاندي معروف لدى كل المحيطين بي. وأنا اعتبره نبي العصر الحديث الحقيقي لأنه أعاد الأخلاق إلى السياسة... لكني اعتبر كذلك أنه متى كانت لديك مثل عليا، وكانت هذه المثل تتعرض للتهديد، أي إذا كان عليك أن تختار بين الخضوع والعنف فإنه ينبغي لك اختيار العنف".
أضاف جنبلاط: "... كثيرا ما يضطر المرء إلى استخدام العنف المسلح لإنقاذ البشر ولإنقاذ البلاد، ولأنه لا يكون في اليد حيلة أخرى".
حاول جنبلاط إجهاض المؤامرة التي بدأ يتعرض لها لبنان منذ "حادثة البوسطة" في عين الرمانة في 13 نيسان 1975 وذلك عبر اللقاءات المستمرة مع الأحزاب، ومع الزعماء الروحيين والشخصيات السياسية والنواب، في الوقت الذي شهدت فيه البلاد أول "وساطة" بدأتها سوريا لوقف دوامة العنف عبر وزير خارجية سوريا آنذاك عبد الحليم خدام ونائب وزير الدفاع اللواء ناجي جميل، إلا أن كرة العنف والدمار والنار واليباس بدأت تكبر وتمتد لتشمل بيروت وعددا من المناطق اللبنانية، وبدأت رقعة الاشتباكات تتسع، وعمت الفوضى البلاد، وانهارت مؤسسات الدولة، وانقسم الجيش، وانقسمت البلاد إلى معسكرين واندلعت "حرب الآخرين على ارض لبنان". وكان جنبلاط قد وضع البرنامج المرحلي لإصلاح النظام السياسي في لبنان، وانطلق مناضلا مع حركته الوطنية لتحقيق هذا البرنامج.
ويرى الوزير ألبير منصور: "أن ذروة عطاء كمال جنبلاط الفكري والنضالي تتمثل في "الحركة الوطنية" التي بناها، إنها ذروة عطائه لأنها تتميز بخصائص معينة هي خلاصة تجربة كمال جنبلاط الفكرية والنضالية في المجال السياسي".
بينما يعتبر الدكتور مسعود ضاهر "أن جنبلاط انخرط في نضالات يومية دؤوبة من أجل تحضير القوى السياسية البديلة القادرة على التغيير، لان قوى النظام لن تقدم على هذه المهمة، وليس من مصلحتها الطبقية أن تفعل ذلك. لذا دفع بـ"الحركة الوطنية" اللبنانية الذي تسلم قيادتها إلى وحدة حقيقية... وجعل تلاحمها مع المقاومة الفلسطينية تلاحما مصيريا على الساحة اللبنانية".
الدخول العسكري السوري
في الأول من حزيران 1976 دخلت القوات السورية إلى لبنان، إلا أن جنبلاط والأحزاب اليسارية، والقائد الفلسطيني ياسر عرفات ومعه عدد من التنظيمات الفلسطينية عارضوا هذا التدخل. وفي العشرين من تشرين الأول 1976 وافق كل أطراف النزاع: الجبهة اللبنانية، الحركة الوطنية، المقاومة الفلسطينية على قرار وقف إطلاق النار الصادر عن القمة العربية المنعقدة في الرياض، وتشكيل قوات الردع العربية.
يرى الكاتب الروسي إيغور تيموفييف في كتابه "كمال جنبلاط – الرجل والأسطورة" أن "التدخل السوري جاء ليشكل خطرا على مخططات كمال جنبلاط..." (ص 450) ويضيف في مكان آخر: "... تلقى كمال جنبلاط نبأ تدخل السوريين المفاجئ... وهو في اجتماع الأحزاب الوطنية والتقدمية في عاليه، وأخرجه عن طوره لبعض الوقت، فضرب الطاولة بيده حانقا: "نحن مستقلين في هالبلد. ما منقبلش الوصاية يا عمي ما بيقدروش يعملوا وصاية على اللبنانيي...”
وذكر جنبلاط في كتابه "هذه وصيتي": "اذكر لقائي الأخير مع الرئيس الأسد ورفضي إعلان وقف القتال فورا، فقد ساءه ذلك بالتأكيد... وفي خلال المحادثة الأخيرة تكلم الرئيس الأسد بكثير من الصراحة وقال لي: "أصغ إلي، إنها مناسبة تاريخية بالنسبة إلي لتوجيه الموارنة صوب سوريا، وكسب ثقتهم وإقناعهم أن حاميهم ليس فرنسا، وليس الغرب. وينبغي أن نساعدهم على عدم طلب المعونة من الأجنبي، ولهذا فإنني لا استطيع القبول بانتصارك على المعسكر المسيحي في لبنان، فمن شأن ذلك أن يخلق شعورا بالغم والغيظ لديه...".
خيبة الأمل
في أواخر حرب السنتين كتب جنبلاط: "لقد أدركني التعب. أشعر بأني أصارع طواحين الهواء، فالمأثورة التي تقول "الروح قوية ولكن الجسد ضعيف" تصح علي أنا أيضا، ثم كانت هناك كلمة ذلك الحكيم الكبير التي كانت تمثل في ذاكرتي أبدا انك لن تغير العالم، وكل ما أنت مستطيع تغييره هو نفسك".
وتابع: "... أنا على يقين أن هذه الشبيبة اللبنانية ستخرج من الصراع البطولي والقذر، بعيدة عن "الثوروية" وأهلا للقيام بثورة حقيقية. فالثوري الحقيقي الجدير بهذا الاسم هو صانع خلاق يزيد الفرح في هذا العالم، فالأخلاق والثورة تسيران جنباً إلى جنب".
اغتيال "المعلم"
كان جنبلاط يعيش في المرحلة الأخيرة من حياته هاجس تعرضه للموت اغتيالا، واخذ القريبون منه يلحون عليه بمغادرة لبنان، ومنهم العميد ريمون إده الذي اتخذ باريس منفاه، إذ عرض على جنبلاط الانتقال إلى فرنسا، وتشكيل حكومة منفى لبنانية. لكن جنبلاط رفض الفرار وكان يردد دائما: "إن الرجال من آل جنبلاط نادرا ما يموتون على الفراش".
وفي السادس عشر من آذار من العام 1977، أنهى كتابة مقالته لجريدة "الأنباء" التي يصدرها الحزب التقدمي الاشتراكي، وكانت بعنوان "رب اشهد أنني بلغت"، ثم انتقل بسيارته المرسيدس برفقة مرافقيه فوزي شديد، وحافظ الغصيني إلى المختارة. وعلى مفرق دير دوريت كان القدر المشؤوم في انتظار "المعلم". فقد اعترض سيارته عدد من المسلحين "تردد أنهم كانوا من جنود الوحدات الخاصة السورية"، يستقلون سيارة "بونتياك" بيضاء اللون حملت لوحات عراقية إمعانا في التضليل، ليغتالوا جنبلاط مع مرافقيه، في وقت كان فيه المطر ينهمر غزيرا، تماما كمطر يوم مولده... وكأن جنبلاط جاء إلى هذه الأرض بالمطر يملأها خصبا، ثم رحل عنها مضيفا دمه إلى المطر، ليزيد من خصوبة الأرض التي أحب.
النهار - الأحد 11 آذار 2007
كمال جنبلاط والفردوس اللبناني
حين يتحدث أستاذ الفلسفة اللبنانية أنطوان سيف عن حكماء جبل لبنان، في كتاب يحمل هذا العنوان، فإنه يضع بطرس البستاني وكمال جنبلاط وعادل إسماعيل معا، وكمال واحد من الحكماء في لبنان، لكنه فيما يبدو لم يورث حكمته لمن ورثه، وهي الحكمة التي جعلته يكتشف السحر اللبناني دون تصيبه لعنته، ضاربا عرض الحائط بكل ما من شأنه أن يمس لبنان الكبير شيء، ومن أجل ذلك الوطن عارض المحسوبية ودعا إلى المشاركة الحقيقية في الحكم وإقامة التوازن داخله ورفع الهيمنة وحيدة الجانب في مختلف جوانب القرار في الدولة. وكان عليه أن يدفع ضريبة ذلك سياسيا بأن ساءت وتراجعت علاقته مع الرئيس فرنجية، ووصل التراجع ذروته مع أحداث 1973 بين المقاومة الفلسطينية والجيش، ثم على إثر أحداث عين الرمانة في 13 نيسان 1975، التي كانت بداية صراع مسلح مدمر أصاب الشعب اللبناني بخسائر فادحة. وكان دور كمال جنبلاط وحزبه "التقدمي الاشتراكي" مواجهة الكارثة بأقصى ما أمكن من الوعي الحر التقدمي السليم.
آنذاك، كانت رائحة الكراهية تفوح في كل لبنان، بيد أن كمال جنبلاط كرس نفسه أيضا للدعوة لوقف القتال وإزالة الأسباب العميقة التي فجرت الأحداث، وخاصة الصراع بين الحرية ومناوئيها والنظام الطائفي الرجعي المهترئ من جهة أخرى.
ومن أجل اغتيال الكراهية وإصابتها في قمقمها، قدم جنبلاط مشروعا وطنيا للخروج من الصراع والقتال، تبنته أحزاب الحركة الوطنية التي أسسها هو وكان رئيسها وسمى ذلك المشروع "البرنامج المرحلي للإصلاح السياسي في لبنان". وبقي كمال جنبلاط مستمرا في رسالته الإنسانية التقدمية الحضارية المثلى دون رهبة أو خوف رغم ما كان في لبنان من أهوال محدقة به من جميع الجهات. وبينما كان جنبلاط في ذروة عطائه وأوج إمكانياته كزعيم وطني حقيقي موهوب، مدركا بعمق أبعاد الوضع اللبناني، ولا يوجد من يضاهيه في مقدرته على معالجة أزمات لبنان ودك الأخطار عنه اغتيل برصاص غادر في 16 آذار عام 1977، فاتحا النار بغيابه على المستقبل والدولة اللبنانية التي اعتادت الاغتيال، غير انه ترك للبنان سيرة رجل لا يختصره عمل الحزب أو المنصب، فهو سياسي ومثقف ومفكر، غير أن السياسة حوطت سيرته وغطت عليها.
ولطالما حوصرت شخصية كمال جنبلاط في أذهان العامة، وخاصة المثقفين ضمن إطار السياسة والحزب والعمل النيابي، أكثر من تناولها في إطار الفكر السياسي، ومثل تلك المحاصرة تسهل غواية التبويب وعفوية الدراسة، وبخاصة تبويب السيرة بين ثنائيات اليسار واليمين أو التقدمي والرجعي أو الاشتراكية والرأسمالية.
وتبويب حياة الأفراد سياسيا رغم أهميته، إلا أنه يكون مصيدا سهلا لاصطياد الرأي، وتحت هذا التبويب جاء الاختزال، الذي عانت منه سير المفكرين السياسيين، وكمال جنبلاط واحد ممن اختزلوا وقسم في فكره.
تشكل المكون الفكري لكمال جنبلاط من دون انقطاع في سيرورته الغنية والمعقدة، والمتعددة الخبرات، فجاءت شخصية مبنية من عدة مناهل متباينة في الظاهر، أعاد صياغتها وتصالح معها في أكثر من لحظة، ومن خلال عقلية شمولية صوفية عرفانية موصودة بإحكام، ومركبة بطريقة يصعب فصل الصورة عن الإطار فيها.
أمسك كمال جنبلاط بحريته ودفع ثمنها غاليا، وتكشف قراءته للحرية عن انه انخرط في مسلك الحرية عربيا ولبنانيا ودوليا وثقافيا وروحيا وبمستويات مختلفة. ولذا كان لبنان خيارا وطنيا ومحل إجماع حتى في يوم موته.
يقول جنبلاط في كتابه "فيما يتعدى الحرف" "بيروت 1964": "مطلب الحياة العميق مطلب جميع الكائنات الحية هو الحرية والسعادة والوجود أي الحياة الحقيقية" والحرية هنا ليست هدفا ومطلبا خاصا بالإنسان وحده، بل هي مطلب جميع الكائنات، ثم يتحدث عن الحرية والسعادة والوجود، ويرى أن هذه المفردات تشكل ثالوث الحياة.
لم يكن جنبلاط سياسيا حالما بعالم من المدينة الفاضلة بل كان يحلل ويفسر، ويرد الأشياء إلى تاريخها، ففي معرض حديثه عن محور الظاهرة بغداد نجده يقول: إنها تناقضات تنمو وتدوم، كنا نظن أن التاريخ خواها، إنها تناقضات ممفيس الفراعنة وبابل وآشور فهو يرى التناقضات ويبصرها، لكنه لم يقطع علائقه الفكرية بالأصول القديمة ولم يشح ذهنه عن المقاربات الحديثة لأزمات الحضارة المعاصرة، وهو لا يتجاهل الخصوصيات الحضارية والمذهبية الدينية والفكرية ولا يستهين بموضوعيتها وألوانها الخاصة، إلا أنه لا يجعل هذه الخصوصيات تفكر فكره التوحيدي، وهو يرى أن الإسلام هو الواقع المعتقد الجامع الذي تبرز على "ورائيته" جميع العائلات الروحية والمذهبية "فالناس كلهم في النهاية نصارى، وكلهم مسلمون في النهاية".
وهنا فإن قراءة جنبلاط للتاريخ عرضية شاملة، يرى من خلالها الشرق الفسيفسائي "راجع كتابه لبنان في واقعه ومرتجاه ص57". جنبلاط ذو نزعة صوفية توحيدية، كان مولعا بالاكتشافات الحديثة التي فكت رموزها علوم الإنثروبولوجيا، ولذلك فهو مؤمن بالتطورية، وتحت آثار الرغبات وقع كمال جنبلاط تحت تأثير برغسون صاحب كتاب التطور الخلاق وكتاب الطاقة الروحية، وبالتالي كان على جنبلاط أن يسأل عن التطور والدين والعلاقة بينهما.
جمع جنبلاط في شخصيته مختلف الشروط للقيادة، وهي لم تجتمع لمن جاء بعده، ولكنه بنفس الوقت كان يجمع جملة من التناقضات.
لبنان في فكر جنبلاط يمثل وحدة للتعايش ووحدة للحياة، وهو يرى أن السبب في ذلك هو أن كل تناقضات لبنان تجعل منه واقعا منسجما وتسوية معقولة، وتأليفا يحافظ فيه طرفا النقيض وقطبا التعاكس. يصدر تناقض لبنان وتعدديته عند كمال جنبلاط عن قاع تفاؤلي بارز، ليس عبثيا، وهذا ما يذكرنا بماركس وبحثه عن الفردوس الشيوعي الأرضي غير أن جنبلاط يشدد بشكل أساسي على الروح ليس بالمعنى الحقيقي بل بمعنى العبارة الأخلاقي.
لبنان في فكر كمال جنبلاط قائم على التنوع الغريب العجيب، منه يستمد الحرية والسماحة والتقاليد الراسخة في الديمقراطية، ولبنان عند كمال جنبلاط محاولة تأليف ضخمة ومحاولة تعاون وانسجام بين كل الأديان.
ولبنان عنده "وجد لكي يكون بلد العقل وبلد العقلانية" والإنسان هو المستقبل فهو يقول: "الإنسان هو مستقبل الإنسان".
اغتيل كمال جنبلاط مع محاولة لاغتيال لبنان، وكمال جنبلاط اليوم في إرث قابل للاغتيال مرة أخرى وقابل للإحياء دائما، ومن خلال نموذجه الرحب فكرا يمكن النظر إلى أن لبنان دولة قابلة للاستيعاب الكبير لمعاني التعدد بعيدا عن أي محاولة للرسم أو استهداف للتاريخ والوطن والدولة.
انكسر لبنان كثيرا في رموزه، وبعد كل انكسار يعود ناهضا قائما، وفي "كل يوم له احتمال جديد وللمجد فيه مقام"، تاركا الكراهية للآخرين الراغبين في تشويه أرزه أو سلبه فردوسه.
مهند مبيضين - أستاذ التاريخ والحضارة في جامعة فيلادلفيا - جريدة الغد - 19/08/2006
اليوم في ذكرى مولد كمال جنبلاط تعود بنا الذاكرة إلى ما رمى إليه هذا الذي ورث زعامة لينتقل بتصميم هادئ إلى أن يصبح قائداً لحركة إصلاحية جذرية من خلال مبادرته في أيار 1949 تأسيس الحزب التقدمي الاشتراكي مع فريق كان أعضاؤه خميرة أبت أن توصف بـ"النخبة" وأصرت على أن تكون طليعة اختزلت دورها بالتزام أن يكون لبنان وطناً حراً واللبنانيون شعباً سعيداً بمعنى أن يكون الوطن للمواطنين لا إطارا للطوائف، وان سعادة الشعب لا حقوق الطوائف تشكل التحدي لتأمين حقوق الإنسان وحاجته، من خلال اشتراكية منفتحة على قيم توفر منهجاً تطورياً لترسيخ مفهوم المساواة والحرية لا الواحدة على حساب الأخرى كما في النظامين الرأسمالي والشيوعي في مراحل الحرب الباردة.
أما المنهج الذي اتبعه كمال جنبلاط فهو أن يبقى لبنان بمنأى عن أن يكون ساحة لمنافسات الآخرين ثم حروبهم، وبالتالي يجب أن يظل عنصراً مكونا لقوة ثالثة تردع تمادي طغيان الاستقطاب وبالتالي أخطاره، وهكذا كانت قيادته الفذة للحزب الاشتراكي مدماكاً يتم من خلاله تعريف الاستقلال بتجاوز مظاهر السيادة القانونية والشكلية إلى أن تصبح استقلالية الإرادة التي بلورها الحزب الاشتراكي ومارسها مكوناً رئيسياً لحركة عدم الانحياز، مما جعل كمال جنبلاط السياسي والمفكر والقائد مساهماً رئيسياً في ثقافة استقلالية القرار، وكان في تلك الأثناء مع نهرو وعبد الناصر وغيرهما ركناً من أركان الفكر الذي عجّل في حركات التحرر الوطني في القارتين الأفريقية والآسيوية. هذا بدوره جعل كمال جنبلاط يتخطى بشكل ملهم موروث الزعامة التقليدية إلى احد القادة العرب ودورهم في عالم ينظر إلى لبنان لا من حيث الحجم الجغرافي بل من حيث عطاءاته الفكرية والثقافية كما أرادها جيل النهضة الأوائل أمين الريحاني وجبران خليل جبران وميخائيل نعيمة وعمر فاخوري وغيرهم ممن لم يلوّثهم تزمت الطائفيين ومحترفي الانغلاق.
• • •
لماذا هذا الاستذكار اليوم والعالم مهموم بالتداعيات الخطيرة لتسريبات موقع ويكيليكس والتي تعلمنا في لبنان وفي الوطن العربي إجمالا أن التذاكي ليس بديلاً من الذكاء، بل نقيضه، وان بعض مسؤولينا يقولون في السر ما يناقض ما يعلنونه في العلن! وهنا يشكل كمال جنبلاط نموذجاً لاستقامة خطابه العام، لأن ما ينويه كان دائما ما يقوله ويصرّح به ويحاضر فيه، ملتزماً الشفافية والوضوح ومستهدفاً الإقناع ومجتنباً الإملاء. كأنه كان يتصرف بموجب مقولة جبران "لكم لبناننكم ولي لبناني".
في هذا المجال تصبح حرمة الكلمة مصونة، وبالتالي فاعلة، ويتحول الحوار من مسعى، إلى الإيقاع في مصائر، كما شاهدنا، مما يجعل المتربصين للبنان والعرب يعتمدون ازدواجية في القول والعمل، فتفقد العلاقات استقامتها كما تفقد المطالبة بالحقوق الوطنية والقومية نجاعتها، لكون الازدواجية التي مورست كما اكتشفنا تجعل من مسؤولي المصير - لبنانياً وعربياً في حال المواجهة مع مشاعر جماهير الوطن والأمة. إذاً الشفافية المسؤولة والصراحة في خطابنا ومفاوضاتنا تنتزع الاحترام، في حين أن الازدواجية قد تستجلب التربيت على الأكتاف، وهو ما يؤدي إلى مزيج معيب من الاحتقار وادعاء المودة.
من هذا المنظور تعود الذاكرة هذه الأيام إلى ما كان يمثله كمال جنبلاط من صلابة مواقفه ومرونة أدائه. في هذا الزمن الذي يتحول فيه القلق أحياناً إلى خوف، تجيء ذكرى ميلاد هذا الفيلسوف الحكيم كتحريض لنا جميعاً لتوظيف تراثه المعطاء كي نساهم في استعادة ثقافة النهضة، وعظمة التواضع، والنفاذ إلى جوهر الدين وشمولية المقاومة وإنسانيتها، وقد كان حاضناً للمقاومة الفلسطينية وإنقاذها من تيه يعْبث بنجاعتها وإلهامها.
وفي الحالة الراهنة لم يكن كمال جنبلاط ليسمح بأن تتحول المحكمة الدولية الخاصة بلبنان عامل تقسيم أو حكراً على حزب أو تيار، كما لم يكن ليسمح بأن تكون المقاومة إلاّ شاملة، شرعية، محتضنة وعرضة لأن يشمل التزامها حق المراجعات النقدية، حرصاً عليها وعلى شموليتها ووحدتها فلسطينياً ولبنانياً.
نفتقد اليوم رصانة كمال جنبلاط وصلابته وهدوء توجيهاته، ونستذكر أنه طوال مسيرته، كان يتوخى المزيد من المعرفة ما جعله أحياناً يمارس المعارضة، وفي الوقت نفسه ينبذ العداوة حتى في خضم الخصومة.
لعل مدرسة كمال جنبلاط هي اليوم جديرة باستعادة دروسها وسلوكها وبرامجها، فنخرج من هذا الاستقطاب الخطير إلى فضاء رحابة الكرامة والمواطنة والاستقامة اللاغية للازدواجية المعيبة بين "السرّ والعلن"، ونتمكن من القول باعتزاز أن كمال جنبلاط، التلميذ الأنجب للمهاتما غاندي ورفيق جمال عبد الناصر وجواهر لال نهرو... كان من لبناننا العربي!!
كلوفيس مقصود - النهار 05 ديسمبر 2010
هكذا تحدّث كمال جنبلاط
في كتابه الصادر عن «المركز الثقافي العربي»، يُبحر الباحث اللبناني خليل أحمد خليل في أفكار «المعلّم» وطروحاته وفلسفته وثورته، وسعيه لتحقيق نظام علماني في لبنان.
شهادة حياة، سيرة ذاتية لشاهد يتماهى مع موضوعه، مقاربة فلسفية لتاريخ المعلم، كل هذا وغيره نجده في كتاب «مع كمال جنبلاط» (المركز الثقافي العربي). فيه يُبحر الباحث والمؤلف خليل أحمد خليل أبعد مما كانت عليه أطروحته الأولى «ثورة الأمير الحديث»، متماهياً مع «عمود السَّما» ــــ أي كمال جنبلاط كما يصفه الموحدون الدروز ـــــ مفسراً أفكاره وطروحاته وفلسفته.
«عمود السَّما ومعمودية الدم» بهذا العنوان، يشرح الكاتب تعاليم «المعلم» وتوجيهاته، في لقاءات الأربعاء الشهيرة التي كانت تجمعه به هو وغيره من الاشتراكيين التقدميين، داعياً إياهم إلى المحافظة على لبنان وقائلاً لهم: «لا تمزقوا لبنان قميص السيد، فالمسيح عقل الأمم لا الحجارة التي رصفتم بها قلوبكم وقبوركم». وبلغة يتداخل فيها الذاتي بالسياسي، يروي خليل بعض المحطات التي مرت بها الجنبلاطية السياسية، وكيفية انتقالها من وريث إلى وريث. وفي هذا السياق، يفنِّد الكاتب بعض خلاصاته السياسية التي أدرجت في ميثاق «الحزب التقدمي الاشتراكي» على إيقاع الحكمة القديمة والفلسفة السياسية الحديثة، «فالمعلم كان زعيماً مزدوجاً حديثاً/ تقليدياً يخاطب الخاصة بفكره والعامة بخدماته».
كان الرفيق كمال بك كالرائي والشوّاف، يهجس باكراً بالمتغيرات التي ستحدث في المنطقة. هنا، يستحضر خليل حواراً دار بينه وبين المعلم تمحور حول تداعيات هزيمة 1967. يومها، قال جنبلاط: «الهزيمة هذه أشد من نكبة 1948، هي ليست نكسة كما يُقال تخفيفاً من وطأتها. الردّ عليها سيكون بمقاومة عربية ضارية وطويلة جداً». فهل هي مصادفة تاريخية أن تتقاطع رؤيته تلك مع المشهد العربي الراهن؟ وما معنى المد الإسلامي المقاوم لإسرائيل بعدما تراخت حركات التحرر اليسارية والقومية؟ طبعاً لو لم يستشهد «عمود السّما» باكراً، لقدَّم جوابه عن تساؤلنا. لكن موته الذي شعر بدنوّه في 9 آذار (مارس) 1977، منعه من استشراف تحولات الشرق الأوسط الملتهب وانعكاساتها على لبنان.في قراءته لحياة كمال جنبلاط السياسية، يروي الكاتب أهم الملامح التي طبعت نهجه مع جماعته والجماعات اللبنانية الأخرى، وتحديداً الجنوب المحروم الذي أمده بكل ما أوتي من نفوذ لإخراجه من هذه البوتقة عبر إنشائه المدارس وإرسال النخب العلمية لمتابعة دراستهم في الخارج. برأيه، التقدمية إنما هي ثقافة تفاعل وتشارُك. وعلى الضفة الأخرى، يسرد الكاتب علاقة معلمه مع بعض زعماء لبنان أمثال رشيد أفندي الذي كان يخاطبه بـ«رشو»، وكميل شمعون الذي أسقطه في انتخابات الـ 1960 وفؤاد شهاب الذي تحالف معه أربع سنوات قبل أن يفترقا، حين أعلن الجنرال الرئيس عن عدم ثقته بالسياسيّين على خلفية التمديد لولاية ثانية.
من محرابه، انتقد كمال جنبلاط تجربة العديد من القادة اللبنانيين، لكنه في المقابل كان يهجس بإنشاء نظام مساواتي علماني، سرعان ما انطفأ بعد الموت الفجائي لجمال عبد الناصر. لذلك، كما يشير الكاتب، بدأ يعد العدة مع اليسار اللبناني، والثورة الفلسطينية لإنجاز مشروعه الذي أوصله إلى الشهادة، حين أدرك «أن جسده سيقدم قرباناً على مذبح الوطن، متماهياً مع غاندي وسقراط والمسيح».
بعد رحلته في اكتناه مسيرة جنبلاط السياسية، ينتقل الكاتب إلى الدائرة الأخرى، كاشفاً عن شذرات ذات معلمه، أو ما يسميه «ذات الذات»، العابقة بروحية أدب الحياة، في السلوك والمأكل والعلاقة مع الآخر رغم عدائيته، إلى درجة أنّه «قدم نفسه أضحية دون أن يدري على مائدة بناء الدولة الحديثة». في هذه اللحظة التاريخية، يستحضر خليل كيف أنه بعد عودة جنبلاط من جولة على الدول العربية، أخبره الحبيب الشطي وزير الخارجية التونسي في عهد بورقيبة، عن قرار باغتيال جسده، فأجابه «المعلّم»: «مسكين باسكال، ظنّ نفسه قصبةً في رياح الكون. أما نحن فسنديان وصخر، ولسنا وحدنا في العالم».
على حدود الأفكار الفلسفية والوجودية والسياسية وتحولاتها، رسم الكاتب حيوات كمال جنبلاط الذي شاركه أهم محطاتها. وفي إشراقه الأخير على درب «دير دوريت» حيث اغتيل على مدخل البلدة في 16 آذار (مارس) 1977، يخط الكاتب انتقال معلمه إلى شاطئ الأبدية، تاركاً للأجيال العابرة إرثاً سياسياً وثقافياً، على إيقاع الفناء في العقل الكلي.
ريتا فرج - الأخبار عدد الجمعة ٨ كانون الثاني ٢٠١٠
كمال جنبلاط.. مغدور قتلته لم يحاكموا حتى اليوم
هو مفكر وفيلسوف وأحد أهم زعماء لبنان في فترة الحرب الأهلية وما قبلها. ولد كمال فؤاد جنبلاط في بلدة المختارة بقضاء الشوف في لبنان في 6 ديسمبر 1917. والده فؤاد بك جنبلاط اغتيل في 6 أغسطس 1921 في وادي عينبال، وكان قائمقاماً لقضاء الشوف أيام الانتداب الفرنسي على لبنان.
تعود أسرة جنبلاط إلى «الكردية» ويعتقد أن أجدادهم قدموا من كردستان إلى لبنان في العهود الأيوبية، ومعنى جنبلاط باللغة الكردية هي جان-بولات أي (صاحب الروح الفولاذية).
بالرغم من كره كمال جنبلاط للسياسة، منذ صغره، إلا أن ذلك لم يمنعه من المشاركة في مناسبات وطنية عديدة، وذلك منذ العام 1933.
كان يبدي عطفاً خاصاً وتعلقاً بالقضايا العربية، فهو شديد الإعجاب والحماس لسعد زغلول، ومن مواقفه في هذا الصدد ذهابه في العام 1934 عند استقلال مصر إلى رئيس الرهبان في مدرسة عينطورة ليطلب منه أن يعلن ذلك اليوم عطلة احتفاء باستقلال أول دولة عربية، وقد استجاب رئيس الرهبان لهذا الطلب، وكان موقفه هذا أول تعبير سياسي له في ما يتعلق بالقضايا الوطنية والعربية.
في عام 1934 نال كمال جنبلاط الشهادة التكميلية وفي مايو من العام 1934 نال شهادة الكشاف وأصبح عضواً فعالاً في مؤسسة LES SCOUTS DE FRANCE.
نال شهادة البكالوريا - القسم الأول بقسميها اللبناني والفرنسي وبفرعيها الأدبي والعلمي في يونيو 1936، وقد جاء الأول بين طلاب لبنان في الفرع العلمي.
كان ميالاً للرياضيات والعلوم التطبيقية كالجبر والهندسة والفيزياء، وكان ينوي التخصص في الهندسة والسفر إلى البلدان المتخلفة كي يساهم في إعمارها.
في سبتمبر 1937 سافر إلى فرنسا ودخل كلية الآداب في السوربون وحصل على شهادة في علم النفس والتربية المدنية وأخرى في علم الاجتماع.
خلال إقامته في فرنسا تتلمذ على يد العالم الاجتماعي غورفيتش ومعه أنجز شهادته في علم الاجتماع.
في سبتمبر 1939 عاد إلى لبنان بسبب الحرب العالمية الثانية وتابع دراسته في جامعة القديس يوسف فنال إجازة الحقوق عام 1940.
في عامي 1941 - 1942 مارس المحاماة في مكتب المحامي كميل إده في بيروت، وعين محامياً رسمياً للدولة اللبنانية. لم يطل عمله في المحاماة أكثر من سنه إذ توفي ابن عمه حكمت جنبلاط نائب جبل لبنان عام 1943 واضطر حينها إلى دخول المعترك السياسي.
درس مادة الاقتصاد في فترات متقطعة في كلية الحقوق والعلوم السياسية والاقتصادية في الجامعة اللبنانية بدءًا من عام 1960.
كان يجيد ثلاث لغات: العربية، الفرنسية والإنكليزية، وكان ملماً باللغات: الهندية، اللاتينية، الإسبانية والإيطالية.
قرأ القرآن والإنجيل والتوراة وكتب التوحيد والفيدا فيدانتا الهندية. كان متصوفاً ويوغياً.
أسّس ورفيقه كميل أبو صوان نادي القلم في لبنان، ليكون هذا البلد حاضراً بين كتاب العالم.
وصلت مسيرة جنبلاط حتى في 16 مارس 1977 حيث اغتيل مع مرافقيه فوزي شديد وحافظ الغصيني على طريق بعقلين - دير دوريت في كمين مسلح ولم يعرف من هي الجهة المسؤولة عن اغتياله وقد كثرت التأويلات حول الحادثة لكن بالنهاية تجاوز نجل كمال جنبلاط النائب الحالي وليد جنبلاط القضية لينخرط في الحياة السياسية اللبنانية من دون أن تكون مسيرته نسخة طبق الأصل أو حتى قريبة من مسيرة والده.
الوطن القطرية 26/01/2011
لبنان أيام آذار «والسادس عشر» منه أولاً
عادة يفتتح لبنان موسمه كل عام في شهر آذار. شهر بكامله للبكاء والاحتفال، يمارس فيه اللبنانيون طقس الولادة والتجدد. في آذار «واحد» عيد الأرض يبكون الوطن السليب مع مواطنيهم الفلسطينيين. وترجع بهم نار الذاكرة إلى أيامهم السوداء في الشريط المحتل فوراً. وهم محقون في ذلك. وتحين منهم التفاتة حِرّى ومرة إلى باقي التراب اللبناني المحتل في مزارع شبعا وكفرشوبا. وليس بعيداً عنهم كثيراً عدوان تموز 2006 والأيام «33» التي جعلت فيها أسراب الطيران العدو لحمهم ساخناً فيها.
ولأن آذار (واحد) هو كل ذلك وأكثر في ذاكرة اللبنانيين، تراهم كل عام يدخلون في طقس البكاء والاحتفال، لعل آلة العدو الحديدية تنكسر، ولعل الوطن السليب يتحرّر، ولعل العدو ينهزم فيرحل. وليس ذلك على اللبنانيين المقاومين ببعيد.
عندي، لبنان دخل في طقس الولادة والتجدد في منتصف آذار منذ 34 عاماً. فلبنان آذار "16"، كان قد افتتح موسمه عام 1977 بتركيع المقاومة وتطويع اللبنانيين وأخذ طموحاتهم رهينة. ودخل الجبل الثائر والوطن المقاوم دائرة انعدام الوزن، مثله اليوم كما يؤمل له أن يكون.
لبنان آذار "16"، يوم استشهاد الحركة الوطنية اللبنانية والمقاومة الوطنية اللبنانية ومعها المقاومة الفلسطينية، باستشهاد كمال جنبلاط، كان يوماً آخر تماماً. كان بحق يوم انكشاف لبنان أمام إسرائيل. هذا العدو التاريخيّ الذي لا يرحم. ولأننا تعودنا أن ننسى لكثرة ما «تكسرت النصال على النصال»، أحب أن اذكر للتاريخ فقط أنه في منتصف آذار من العام 1978، وبعد عام واحدٍ بالتمام والكمال أي في آذار "14" من ذلك العام، كان قد بدأ الاجتياج الإسرائيلي للأراضي اللبنانية.
تأكيداً على ما أقول أذكر دعوة دولة رئيس مجلس النواب الأستاذ نبيه بري، في مدينة صور (28/1/1995)، إلى اعتبار يوم 14 آذار/ مارس عالمياً من أجل التضامن مع الجنوب: قال «أدعو إلى اعتبار يوم الرابع عشر من آذار، يوماً عالمياً من أجل الجنوب والبقاع الغربي. وللتضامن مع المعتقلين اللبنانيين في سجون الاحتلال الإسرائيلي، وللمطالبة بممارسة ضغط دولي على إسرائيل لتنفيذ قرار مجلس الأمن رقم 425.. وأضاف دولة الرئيس بري: «إن اختيار يوم الرابع عشر من آذار/ مارس يصادف ذكرى الاجتياح الإسرائيلي للأراضي اللبنانية عام 1978. (كتاب 14 آذار، اليوم اللبناني – العالمي من أجل الجنوب والبقاع الغربي وثائق العدوان الإسرائيلي مجلس النواب: المديرية العامة للدراسات والأبحاث 1995، ص 7)
إذاً، لم تنتظر إسرائيل انكشاف لبنان طويلاً بعيد اغتيال واستشهاد المعلم كمال جنبلاط القائد التاريخي للحركة الوطنية اللبنانية في آذار : 16/1977، لأنه صار من السهل عليها في آذار 14 – 15 /1978 اجتياح واجتثاث المقاومين فيه وتدمير حصون المقاومة وقواعدها، وبالتالي تدميرها 400 قرية ومدينة وأكثر من 2000 منـزلاً، واحتلال 1100 كلم مربع من أرض لبنان واستشهاد 560 مواطناً وجرح 653 مواطناً وسقوط 140 شهيداً و50 جريحاً في بلدة واحدة، وذلك فيما أسمته «عملية الليطاني» هل تذكرون عملية الليطاني التي قام بها العدو الإسرائيلي بعد عام على انكشاف لبنان أمامه.
لبنان اليوم آذار "8" و"14" و"15" والسادس عشر منه أولاً، يستشعر الخوف مسبقاً من انكشافه مجدداً أمام العدو الإسرائيلي. وفي هذا السياق نفسه تأتي دعوة ولي الدم، النائب وليد جنبلاط، إلى عدم المشاركة في مظاهرة 13 آذار. إنه الخوف مرّة أخرى بعد 34 عاماً على انكشاف لبنان أمام إسرائيل بدعوة من الطرف السياسي نفسه القديم/ الجديد الذي يحرّض على انكشافه اليوم أمام العدو الإسرائيلي وذلك من خلال الدعوة إلى نزع سلاح المقاومة. والحملة في آذار 13 لاجتثاث سلاح حزب الله إنما هو لاجتثاث المقاومة.
وعلى أساس من الكشف المسبق لقراءة "الما" سيأتي على لبنان بعد نزع سلاح المقاومة الإسلامية وانكشافه وتعريته أمام العجرفة القاتلة والطغيان الإسرائيلي الغشوم، كانت دعوة ولي الدم، النائب جنبلاط لآذار "14" والتي تعظ آذار "8" بإسقاط سلاح الحزب، بأن "الحزب التقدمي الاشتراكي" لن يشارك في مظاهرة 13 آذار وهو وإن كان لم يمنع يوماً أي مواطن من التعبير عن رأيه الحر، إلاّ أنه يعلم وعي الناس ومسؤوليتهم وعدم قبولهم المشاركة في مناسبة: توجُّه بعض خطبائها واضح لناحية الحض على الفتنة والكراهية والتحريض على الطائفية والمذهبية وكشف لبنان أمام إسرائيل وتعريته بالمطلق أمام عدوانها المحتمل في أي وقت (جريدة الأنباء: العدد 2139 – 8 آذار 2011: ص1)
ولأن "من يذق ير" بالكشف الصوفي، فليس بعيداً عنه أن تكون دعوة ولي الدم بالحدس أو بالحس الجنبلاطي، وهو الذي ذاق ومعه لبنان والحركة الوطنية ومقاومتها حملة نزع السلاح من وجه إسرائيل في آذار "16" من العام 1977، تمهيداً لاجتياحه بعد عام فقط في آذار "14-15" 1978، من خلال عملية الليطاني.
ثم كرّت سبحة العدوان الإسرائيلي على لبنان، على وقع إطراءات تنظيف لبنان من السلاح الغريب (الفلسطيني)، فمهّد ذلك لعدوان (14-24) تموز 1981. إذ بدأت إسرائيل حرباً جوية ضد لبنان، وقصفاً مدفعياً مدمراً. وقامت عشرات الطائرات الحربية بشن غاراتها على 46 مدينة وقرية جنوبية امتداداً من صور إلى صيدا والنبطية والزهراني وحاصبيا وراشيا الوادي. وصولاً إلى إقليم الخروب ومنطقة الشوف وهي عقر دار ولي الدم الجنبلاطي – والعاصمة بيروت حيث مركز قيادة الحركة الوطنية اللبنانية ومقاومتها. وقد استهدفت جميع الجسور في الجنوب والبقاع الغربي، وأخطأت جسر الحاصباني، ودمّرت محطة تكرير النفط في الزهراني وسقط 252 شهيداً و920 جريحاً، ودمر 380 منـزلاً.
بالرغم من ذلك فإن أبواق التطهير العرقي لدى الفريق نفسه في آذار "14" اليوم لم تهدأ. بل ظلت تستدعي استكمال المشروع الإسرائيلي للاجتياح الكامل للبنان. فأتت "عملية سلامة الجليل" صباح 6 حزيران 1982 غب الطلب ربما، لأن العدو الإسرائيلي وجدها سانحة، فاحتلت إسرائيل 3/2 من الأراضي اللبنانية وحاصرت العاصمة بيروت واحتلتها 83 يوماً ودكتها بعشرات الآلاف من القذائف التي أطلقتها مئات الدبابات والطائرات والبوارج الحربية. وقد أوقع الغزو 73 ألف شهيد وجريح من اللبنانيين والفلسطينيين، ودمر 33 مدينة وقرية تدميراً تاماً إضافة إلى 16 مخيماً فلسطينياً. وكان معتقل أنصار مثل معتقل أوشفيتز النازي. أما الأضرار فبلغت قيمتها في أربعة أشهر: حزيران وتموز وآب وأيلول 1982 بـ 7 مليارات و622 مليوناً ما يعادل ملياري دولار أميركي.
النائب وليد جنبلاط "ولي دم" آذار "16" العام 1977 يقول "كفى" لآذار "14" اليوم وخصوصاً للفريق نفسه الذي يستدعي العدو الإسرائيلي للتطهير العرقي في لبنان. وهو يتساءل عن استمرار العمى السياسي في العمل السياسي. يخشى على لبنان آذار "14" اليوم ويقول: انتبهوا جيداً لإعادة استجرار العدو الإسرائيلي إلى لبنان من جديد من خلال استجرار خطوط التوتر العالي للفتنة المذهبية والتحريض الطائفي البغيض يوم 13 آذار 2011 لأن السادس عشر من آذار 1977 يجب أن لا تفوته ذاكرتكم. آذار 1977 والسادس عشر منه هو أولاً.
النائب وليد جنبلاط ولي دم آذار "16" يقول لدولة الرئيس سعد الحريري ولي الدم في 13 آذار 2011: انج سعد فقد هلك سعيد، إذا كان لنا جميعاً "لبنان أولاً".
بقلم د. قصي الحسين (الأنباء) - 15 آذار, 2011
كمال جنبلاط: استشهادكم جسر عبور لكل أحرار الثورة العربية المعاصرة
في ذكرى استشهاده الرابعة والثلاثون...وفي ظل هذه الثورة الشعبية الشبابية التي بدأت مع ثورة الياسمين في تونس, وثورة 25 يناير في مصر والثورة الشبابية الدامية التي لا تزال تتأجج في ليبيا شرقا" وغربا", وفي الوقت الذي تتسمر فيه عيون العالم اجمع بشكل عام وعيون العرب بشكل خاص على ثورات اليمن, عمان, الأردن, البحرين,الجزائر, والحبل على الجرار...
وفي أعماق هذه العاصفة النهضوية المشرقطة في كل الزوايا , تحققت نبوءة المعلم وآماله برؤية الوعي والعقلانية والثورة تملأ صدور وعقول الشباب العربي, لتقول لكل الدنيا بأن هذه الأمّة ستعيد أمجادها الغابرة, وكأن هذه الثورة العربية العارمة قد توجهت نحو الفيلسوف الفرنسي جاك آتالي القائل : "خلال الاربعماية سنه القادمة سيكون عصر التفوق الآسيوي على كل الأصعدة الصناعية والاجتماعية والمادية بينما الشعوب العربية ستنقلب إلى ديناصورات ينساها العالم المتحضر" هكذا بالحرف الواحد وبكل وقاحة....ومن المفيد التذكير بما قاله زعماء العالم الغربي عن ثورة الشباب المصري بالذات, كي ندرك مدى عمق نبوءة واستقراء كمال جنبلاط وآماله في الشعب العربي ومدى عنصرية جاك آتالي التي لم تفاجئنا.
* قال الرئيس الأميركي أوباما : "يجب نربي أبناءنا ليصبحوا كشباب مصر".
* رئيس وزراء ايطاليا برلوسكوني قال : "لا جديد في مصر فقد صنع المصريون التاريخ كالعادة".
* رئيس وزراء النروج ستولتنبرغ قال : "اليوم كلنا مصريون".
* رئيس النمسا هاينز فيشر قال : "شعب مصر أعظم شعوب الأرض ويستحق جائزة نوبل للسلام".
* رئيس وزراء بريطانيا قال بالحرف الواحد : "يجب أن ندرس الثورة المصرية في المدارس".
* شبكة السي أن أن قالت : "لأول مرة في التاريخ نرى شعبا" يقوم بثورة ثم ينظف الشوارع بعدها...".
معلمي...بمناسبة ذكرى استشهادك...اسمح لنفسي أن أتوجه ومن خلال بحر علومك وثقافتك وتمرسك في كل مشاعب الحياة وإسرارها, أن أتوجه للشباب العربي الثائر حتى يستفيد من كل جملة وحرف مما خطته أناملك وكل ذلك من نور وقبس إبداعاتك على مدار نصف قرن...
كلامك للثورة والثوار...خوفك على الثورة...تحذيراتك... رؤياك...توجيهاتك... لعلها تصل إلى الذين أحيوا أمل آلامه بشرق جديد وبعصر جديد وبانتصارات جديدة....
1- في جدلية التطور قال المعلم :
- كل شيء ستضربه فأس التغيير...يجب أن لا نخاف من التغيير لأنه قابلة العصر الجديد.
- من يتخلى عن ركب الصيرورة والتقدم, تنساه الحياة في سجل ارتقائها.
- إننا أداة مكلفة في الواقع بتحويل التيار الحي الزاخر بالإمكانيات منذ فجر الحياة إلى فكر وشعور وإشراق وقيم وحق ومحبة وجمال...
- هدف الحياة, هدف التطور, هو إبراز الأفضل والأقوى والأقدر. وفساد المجتمع يكون عندما لا يستطيع أن يبرز الأفضل والأقوى والأقدر.
- أن أحوال العالم والأمم وعوائدهم ونحلهم لا تدوم على وتيرة واحدة, ومنهاج مستقر. إنما هو اختلاف على الأيام والأزمنة وانتقال من حال إلى حال.
2- قال في الدين :
- لو سألتني أي دين يجب أن تعتنق لقلت لك : اعتنق الدين الذي يعجبك. لأن جميع الأديان هي نفسها في النهاية. والجاهل وحده يتعصب لدين معين منها.أن جميع الأديان أشكال مختلفة لجوهر واحد.
- وإنما وجدت الأديان لتثبيت مقاييس الأخلاق في النفوس : فهي أداة لذلك الإنماء والترسيخ ولذا فقد تختلف المعتقدات الدينية كثيرا" بعضها عن بعض, ولكنها لا تختلف ابدأ في تصورها للأخلاق.
3- في السياسة والسياسيين
- السياسة يفترض فيها أن تكون اشرف الآداب إطلاقا.
- إن السياسة مسلك شريف لأن لها علاقة بقيادة الرجال وتوجيههم.
- إن السياسة لا يجوز أن تمارس وينظر إليها وكأنها كنيسة من نوع جديد, إنها علم وفن في آن واحد.
4- قال في الشعوب والجماهير :
- إن الحق قوه والقوه كامنة في الشعب. أما البرلمانات فلا قوة لها ولا وجود ما لم تكن مستندة إلى الشعب.
- إن الجماهير معظم الأحيان هي كالفرد, لا تعرف ماذا تريد, وماذا يليق بها وماذا ينفعها ويضرها ولذا كثيرا" ما تقع فريسة للانتهازيين أو المشعوذين.
5- في العنف الثوري :
- أن الثورة بالطبيعة عمل شعبي وتقدمي.
- أن اليقظة الثورية كفيله تحت كل الظروف بسحق كل تسلل رجعي مهما كانت أساليبه ومهما كانت القوى المساعدة له.
- إذا كان العنف الثوري هو أعلى درجات العمل السياسي فلماذا لا يكون لهذا العنف خلق وانضباط والالتزام بالنزاهة والتجرد عن الهوى وبالمروءة والشهامة.
- الذي يمارس العنف الثوري يجب أن تكون له الكفاءة المعنوية والخلقية لممارسته, وإلا انحدر به العنف إلى مستوى الجريمة والمجرمين ولو أنه أضاف على هذا المسلك العنفي المبتذل صفة "الثورة" و"الثورية".
- إنما الإنسان ينتصر بروحه, وبما يعتمر به من خلق ومن ترفع وتجرد في جميع الحالات : حالة العنف الثوري وحالة اللا عنف الثورية أيضا"... فالثورة مطلوبة في الحالتين, هذه الثورة المعنوية التي بدونها لا يصح لنا أن نمارس مناهج السياسة في الحياة.
- العدالة الاجتماعية والسياسية, كما افهمها, لا تحققها الثورات المسلحة بل تحققها ثورة فكريه روحيه تبني الإنسان من الداخل لا من الخارج.
- أن للعمل العنفي شروط وعناصر يتحتم أن تجتمع فيه لكي لا يرتد عمل العنف في النهاية على صاحبه ولكي لا نتصرف على غير هداية.
- الثورية ليست باعتناق الكلمات الطنانة العنيفة الجوفاء ولا باتخاذ المواقف المجفلة ولا بتهديم كل تقليد ولا باعتماد كل جديد.
ويطيب لي في هذه المناسبة الغالية على قلب كل حر شريف في هذا العالم, أن اذكر مناسبة بقيت في خيالي عندما كنت في زيارة للمعلم في المختارة مع المرحوم والدي وكان رفيق دربنا الأستاذ بشارة غريب الذي كان رفيق دراسة للمعلم في معهد عينطورة للآباء اللعازاريين عام 1962 , وعندما جلسنا معه بادر المعلم الأستاذ بشارة بطريقة المزح التي كان يتحلى بها : شو أستاذ بشارة شو عم تعمل هالأيام؟؟ رد الأستاذ بشارة : أنا حاليا" مستشار شركة زيدان هاوس لصناعة السقالات الحديدية ووصلت صادرتنا إلى 30 دولة عبر العالم والمهندس محمود بيقدر يخبرك عن إيران والشرق الأقصى اللي هوي مسؤول عن المبيعات فيهم؟ فما كان من المعلم وبطريقة جميله رد : منيح يا عمي اللي هالشركة بعدها واقفة على رجليها طالما أنت مستشارها!! وضج الحاضرون بالضحك من القلب!! وكانت جلسة جميله لن أنساها مدى العمر واذكر جيدا" أن المعلم الخالد سرد لنا قصة كان يسردها في لقاءاته الحميمة وهذا ليس (ادعاء) : "رأى ديوجين موكبا" ضخما" قادما" إليه فاعتدل قليلا", واتكأ على دنه, فلما رأى العاهل, تأمل وجهه, وبادره العاهل بالتحية ثم عرفه بنفسه "أنا الملك الإسكندر" فأجابه "وأنا ديوجين" فسأله ألا تخشاني؟؟ ففوجئ به يسأله: "وهل أنت طيب أم سيء؟"
فأجابه الإسكندر "بل طيب" فرد عليه ديوجين: "ومن يخشى الطيب"؟؟ وتابع المعلم قائلا "وموجها" حديثه لعشرات الأشخاص الذين كانوا يصغون إليه في تلك اللحظات الخالدات: "يا عمي الأخلاق الكريمة تغل طعاما" للجائع, وكساء للعريان, ومأوى للعاجز, وحضانة لليتيم, وعلاجا" للمريض ومؤاساة للبائس وإسعافا" للمنكوب وإحسانا" لجميع الناس".
معلمي وفي هذه الأيام المفصلية التاريخية التي تمر بها ليبيا وتعنت القذافي الأعمى وصولا" إلى تصريحه الأخير الذي لم يتجرأ عبر التاريخ الحديث والقديم أي زعيم عربي أن يقوله مباشرة أو غير مباشرة وهو انه إذا سقط الحكم في ليبيا ووقعت السلطة في يد ( الخونة) الثوار كما سماهم فهناك خطر على دول البحر المتوسط وأوروبا وإسرائيل....نعم قال إسرائيل بكل عنجهية ونكران للعروبة...
معلمي قلت في أحد كتبك :
"ويؤلمك يا نفسي أن تري تاج الجمال على مفرق البشاعة وصولجان الحق من يد الباطل, وطيلسان العفة على منكب الفجور... فاحذري من أن تكون البشاعة بشاعتك وأن يكون الباطل باطلك والفجور فجورك". وكأنك معلمي تؤشر على هذا الفالت من عقاله العقيد الذي حمل ذات يوم صفة "أمين القومية العربية" التي أطلقها عليه الزعيم الخالد جمال عبد الناصر.
سأنهي كلمتي ومقالتي المتواضعة بتلك الجملة التي ستبقى خالدة في ضميرنا وضمير الثوار العرب وفي العالم أجمع: "على رنين معاولنا وعلى صدى هتافات الأبطال فينا سيستيقظ الشرق الجاثم في سلاسل الفقر والجهل والعبودية".
محمود الأحمدية (الأنباء) - 16 آذار, 2011
... "والتفّ الجبل حول وليده"
طبعاً لا يستطيع أحد أن ينكر "جمالية" المشهد الذي تجلّى بساحة الشهداء نهار الأحد الفائت في 13 آذار إن لناحية سلميّة وحضارية التحرّك، أو لناحية الاعتراف بأحقّية كل مواطن لبناني بأن يعبّر عن رأيه تحت سقف القوانين اللبنانية، وتحت سقف احترام الرأي الآخر أيضًا.
وفي حين كان لهذا المشهد الـ14 آذاري المتجدد تداعيات عديدة أبرزَتها طرق التعاطي المختلفة لوسائل إعلام محسوبة على قوى 8 آذار أو حتى لسياسيي هذه القوى معه، الذين سارعوا إلى الدخول في لعبة الأرقام وقياس مساحة الساحات والتنظير حول ما إذا استطاعت قوى 14 آذار جمع مليون متظاهر أم لا، كان هناك موقف آخر من هذا التجمع لافتٌ في أبعاده ومضمونه وتداعياته، وهو لا شك موقف "الحزب التقدمي الاشتراكي" الذي كان لسنوات مضت أحد أعمدة تجمع قوى 14 آذار فيما هذا العام اقتصرت مشاركته على بعض "الخوارج".
لا ينكر قياديو "التقدمي الاشتراكي" أن مشاركةً من قرى الجبل وحاصبيا وراشيا حصلت في مهرجان 13 آذار، ولا يجدون أي مشكلة في هذا الأمر سيّما وأنهم يعترفون بأن لهؤلاء الحق كما لأي مواطن آخر في التعبير عن آرائهم، لكن عامل الراحة الأكبر لدى قيادة "التقدمي" جاء معطوفاً على النسبة الضئيلة التي شاركت من قرى الجبل في تجمّع 13 آذار، وهو ما يؤشر إلى عكس ما كان يشيع له فريق 14 آذار عن ابتعادٍ في الخيارات بين رئيس "جبهة النضال الوطني" النائب وليد جنبلاط وجمهوره. هذه المشاركة الضئيلة دفعت بجنبلاط كذلك إلى توجيه التحية لجمهوره الذي أبدى هذا "التفهم التام للخيارات السياسية التي تصبّ في حماية السلم الأهلي والاستقرار الداخلي"، مؤكداً في الوقت عينه "التمسك بالمصالحة التاريخية في الجبل مع الكاردينال مار نصر الله بطرس صفير وبمصالحة أيّار 2008، وكلاهما يكرسان العيش المشترك بكل تلاوينه وتنوعه".
وفي هذا السياق، أوضح مفوض الإعلام في "الحزب التقدمي الاشتراكي" رامي الريس في حديث إلى "صدى البلد" أن حجم المشاركة من مناطق الجبل وحاصبيا وراشيا في 14 آذار "عكس الحجم الحقيقي للناس المقتنعين بصوابية خيار التظاهر، وقد جاء عدد هؤلاء محدوداً جداً لا يتعدّى الخمسمئة شخص، فيما كانت بعض وسائل الإعلام غارقة في التركيز على هؤلاء إلى درجة كادت أن تنسى هدف التظاهرة الأساس، وهذا ما يشير بالتأكيد إلى ظهور ثبات فعلي والتفاف تام حول موقف الحزب ورئيسه وليد جنبلاط في الجبل وقرى حاصبيا وراشيا، كما أن هذه المشاركة وإن كانت قليلة لقلّة المقتنعين بها، فهي أشارت أيضًا إلى أن الحزب لم يمارس أي ضغط على أهالي الجبل، وقد شارك من يريد منهم التظاهر، فيما أثبتت الغالبية العظمى أنها تؤيد الخيارات السياسية للحزب، وانحيازه إلى السلم الأهلي والاستقرار الداخلي".
هذا وكان واضحًا أن جنبلاط في موقفه الأسبوعي لجريدة "الأنباء" الصادرة عن "الحزب التقدمي الاشتراكي"، قد أعطى لقوى 14 آذار ما لها لناحية الالتفاف الشعبي الذي لا زالت تتمتع به، وما لها أيضًا لجهة حقّها في التعبير سلميًا عن وجهة نظرها، بل هو ذهب أكثر من ذلك في التأكيد مع هذه القوى على "رفض استخدام السلاح في الداخل"، إلا أنه خالفهم في الأسلوب، إذ انتقد "التلهّي في الخطابات التي لا تؤدي سوى إلى التوتير الطائفي والمذهبي"، داعيًا في مقابل ذلك إلى "امتلاك كل عناصر القوة لمواجهة إٍسرائيل" والإسراع بالتوازي في "تفعيل هيئة الحوار الوطني للوصول إلى استراتيجية دفاعية تؤمن حماية لبنان وتعمل على استيعاب سلاح المقاومة في المؤسسة العسكرية في الظروف الملائمة". وفي هذا الإطار جاء أيضًا المقال الذي نشره موقع "الحزب التقدمي الاشتراكي" على الإنترنت والذي دعا إلى "عدم التعاطي بخفة" مع مشهد تجمع 14 آذار، فكان موقف جنبلاط في "الأنباء" ومقال الموقع الإلكتروني للحزب شكلَين لحقيقة واحدة، وإن كان لموقف الموقع الإلكتروني بعداً آخر مخفيّ فهِمَهُ المعنيون فوراً وبادروا إلى زيارة كليمنصو.
وفيما كانت مصادر موثوقة تؤكد لـ "صدى البلد" أن المقال الذي نشره موقع "التقدمي"، ورغم أنه ليس الموقف الحزبي الرسمي "حمل رسائل باتجاهات مختلفة وقد أدّى غرضه"، أكد الريس من جهته لـ"صدى البلد" أن "الموقف الرسمي للحزب يُعلَن من خلال رئيسه أو قياديه الرسميين أو مفوضية الإعلام، أما بعض ما يتم وضعه على الموقع الالكتروني للحزب من مقالات فهي تأتي في سياق الصفة الإخبارية للموقع"، مشيراً إلى أن "المقال ذكر كاتبه أن مضمون الحديث يعود لمصادر سياسية، وهي ليست بالضرورة أن تكون مصادر في الحزب التقدمي الاشتراكي"، داعيًا كذلك إلى عدم تحميل الأمر أكثر ممّا يحتمل.
وردًا على سؤال، حول ما إذا كان المشهد السياسي بعد نهار الأحد يوحي بتصعيد كبير في البلد، أجاب الريس: "لسنا من محبّذي التصعيد من أي جهة أتى، ولسنا مع انقطاع التواصل بين الفرقاء في البلد مهما كان حجم ونوع الخلاف القائم، وكلنا يذكر ما أدى إليه التصعيد وانقطاع التواصل في الأمس القريب في أيار 2008، وبالتالي فإن انقطاع كل خطوط التواصل اليوم يجعلنا نطرح سؤالاً حول كيفية إيجاد الحلول"، وتابع: "هذه الحلول لا تأتي بالكباش السياسي الذي سيدفع بالبلد إلى حائط مسدود ولا عبر المستحيلات بل بالحوار وحده".
وحول شعار قوى 14 آذار"لأ للسلاح"، جدد الريس القول: "نحن لا نوافق على استخدام السلاح في الداخل، لأنه خيار مدمّر للوحدة الوطنية ولكل الإنجازات التي تحققت في مرحلة ما بعد اتفاق الطائف، لكن لغة التحريض على السلاح هي أيضًا خيار مدمّر"، لافتاً إلى أن "الحديث عن السلاح في مواجهة إٍسرائيل يجب أن يأخذ بعداً آخر أكثر دقّةً ووضوحاً، خصوصًا وأن الجميع يعلم أن الجهات الدولية التي تدّعي الحرص على قيام الدولة في لبنان، هي ذاتها التي تدعم إسرائيل لتكريس احتلالها ولا تضغط عليها لتطبيق القرار 1701 بل تحمي كل ممارساتها الاستفزازية والعدوانية وانتهاكاتها اليومية لهذا القرار، كما تمنع إدانتها في مجلس الأمن الدولي، وتمنع أيضًا وصول السلاح النوعي للجيش اللبناني، وهذا ما يتطلب الجلوس سوياً لبحث كيفية اختيار أفضل السبل لحماية وتقوية مناعة لبنان بعيداً عن التصعيد الداخلي المتبادل، وليكن هدف الجميع التمسك بالثوابت الوطنية الكبرى في تحديد العدو والصديق، والعلاقة المميزة مع سوريا، وضرورة تحصين لبنان ومنع أي انزلاق فيه نحو الفتنة".
صالح حديفة (صدى البلد)- 16 آذار, 2011
عزت صافي يتذكّر كمال جنبلاط... الإنسان
في ذكرى استشهاده الـ 34 وفي زمن يجرف إنسان هذا العصر بمغريات مادية غريبة تشوه "المعايير الثابتة للإنسان" نستذكر كمال جنبلاط من خلال تراثه الفكري القيّم وتجربته الشخصية، التي تخطى من خلالها الحدود الضيقة التي لم تقيده بأسوار قصره وطائفته وبلده، محذراً من " السجن الكبير الذي دخله عالمنا العربي منذ أواخر القرن الماضي.
تصادف ذكراه هذا العام مع ثورات عربية هزت عروش الحكام ، معبرة عن وعي كبير للشارع المنتفض، الذي خاطبه كمال جنبلاط ودعاه مراراً إلى دفن الإنسان التقليدي الغرائزي القديم وبعث الإنسان الجديد . ويتذكر الصحافي والكاتب عزت صافي كما جنبلاط ، الذي رافقه طيلة حياته في مكاتب الأنباء وفي قصر المختارة في الأيام البيض والسود ويقول" لو وصلت أفكار كمال جنبلاط في التقدمية والاشتراكية إلى العالم العربي الذي تلحفت أنظمته بالاشتراكية بعيداً عن شعوبها وحقها في الحرية لما وصلت الأمور إلى ما آلت إليه"
يعتبر صافي أن كمال جنبلاط تخطى طائفته، ليس بمعنى انه خرج منها إنما بالبعد الثقافي والحضاري والسياسي، فنجح في استثمار شعبيته تحت راية جديدة، راية الحزب التقدمي الاشتراكي الذي اخترق كل الطوائف والمناطق فور تأسيسه. كما اخترق بشخصيته المميزة المدى العربي، من خلال إقامة علاقات بالأحزاب الاشتراكية العربية، في العراق وسورية والمغرب، بالإضافة إلى ثقافته التي بدأت تتكون في المرحلة الثانوية ، وتبلورت أثناء دراسته في فرنسا حيث اطلع على تاريخ التجربة السياسية والأحزاب الاشتراكية.
وفي مطلع العام 1949 نجح في إرساء نظريته في التقدمية الاشتراكية بطابعها الإنساني التي وصفها صافي بالفاصل الواصل ما بين القومية العربية ذات الطابع اليساري والاشتراكية الشيوعية الماركسية التي ما لبثت أن تحولت ستالينية . ويعتبر صافي أن سقوط الاتحاد السوفياتي ، الذي كان يجمعه كل هذه الثقافات والشعوب في قالب واحد فيها كانت الحريات معدومة بالكامل ، والدول التي نشأت من بعد سقوطه طبقت الاشتراكية ولو لم تنشأ تحت رايتها وفيها مجال من الحرية والانفتاح، يثبت نظرية كمال جنبلاط في التقدمية الإنسانية والمختلفة بأبعادها ومنطلقاتها وأهدافها . والأمر ينطبق كذلك على الأنظمة العربية التي سقطت وتسقط فيما تنفذ جرائمها تحت راية الاشتراكية. ويقول صافي أن الأحداث اليوم تأتي لتؤكد نظرة كمال جنبلاط ولو وصلت أفكاره إلى العالم العربي لما وصلنا إلى هذا الحد من يأس الشعوب وما كانت إسرائيل ادعت بأنها الديمقراطية الأوحد في الشرق الأوسط.
تميز كمال جنبلاط بحياة غنية متنوعة على بساطتها ويقول صافي " كانت غرفتي في قصر المختارة أفضل من غرفته"، وكان يأكل من الطعام اللبناني القديم وما كان يهمل خصائص الجسد أو صحته إلا في وقت الأزمات الكبيرة، وكان يقول عن السياسة إنها "شغلة" ولا يصرف لها الكثير من وقته، إلا أنه على تماس دائم مع هموم الناس ومشاكلهم ومد الجسور الثقة بينه وبين القاعدة، ويضيف صافي انه عندما كان يخاطب الآلاف لم يكن بحاجة إلى شهادة ليؤكد للناس بأنه منهم. وكان يثق جداً بنفسه وبسلوكه وعندما يشعر بأنه اخطأ كانت لديه الجرأة بنفس الوقت أن يعترف بخطئه، وكان شديد الحرص على الحق العام وعلى تحريض المواطن اللبناني والعربي على أن يعرق حقوقه.
ترك كمال جنبلاط تراثا فكريا قيماً وكان من ابرز كتبه " أدب الحياة" والذي نقل فيه سلوك القرية وأخلاق وآداب القرية، ببعد روحاني وحضاري، وكان يخاطب فيه نفسه قبل أن يخاطب أي احد آخر، ويروي صافي انه لم يره يوماً جالساً واضعاً" رجل فوق رجل"، أو تكلم بشكل جارح ولو كان يعرف حتى أن من يكلمه لا يستحق الاحترام. فأدب الحياة فيه الكثير من أخلاقيات القرى، التي لم يتعلموها في مدرسة، إنما هم جماعات تتشارك مآتمها وأفراحها ، تسهر وتتصاهر، والاحترام الكبير أمر مهم جداً بالنسبة لهم، حتى أنهم يكلمون خصمهم باحترام. إلا أن صافي يعود ليقول بغضة كان هذا قبل الـ 75، فالحرب زعزعت السلوك، وكان المطلوب حينها، مين يحارب". والمسلح "ما بيخضع للجنة اختبار"، المهم أن يتقن حمل السلاح. وبعدما كانت الحرب تحمع تيارات يسارية ووطنية وعلمانية تريد الإصلاح وبناء الدولة تحولت إلى ميليشيات طائفية تعيث فساداً. ارتكبت ما ارتكبته باسم الأحزاب الوطنية الاشتراكية ،" الحرب الداخلية تزعزع كل قيم وأخلاقيات" يقول صافي.
وكان كمال جنبلاط يتميز بأنه يقرأ بصوت مرتفع وكأنه يخاطب نفسه، وكذلك عندما يكتب كان يخاطب الناس بطريقة غير مباشرة، مع العلم انه كان شديد الاحترام لكبار العلم والنفس، وما كان ليهمل الآخرين ولكنه كان يكره أذلاء النفس، من اجل مال وسلطان، ومن هنا كان يعتبر أن الديمقراطية في البلدان المختلفة لا معنى لها، فهؤلاء المدمنون على الرشوة والفساد والذل بإمكانهم أن يسقطوا الشخص المناسب والنظيف ليختاروا السيئ. وهنا كان يشدد على أهمية القانون والنزاهة والقاضي كأساس للنظام الديمقراطي الاشتراكي وأساس الدول الديمقراطية الناجحة والدول الرأسمالية الناجحة. فحتى المال يستثمر في الدول التي تتمتع بقانون ومحاسبة. وكان حريصاً على جيل الشباب الذي حاول أن يخاطبه قائلاً " عايشنا جيلا من الناس في أواسط عمرنا، أغرته مفاهيم سطحية كثيرة كالديمقراطية والسيادة الشعبية، والتقدم والتحرر والاشتراكية والثورة وسواها، ولم ننفذ إلى حقيقة هذه المعايير والمفاهيم، فأضحى يهيم على وجهه ، يطلب هذه الأشياء، كما برزت له في سطحيتها، فلا يجدها، وهي في الواقع معضلة شباب عصرنا وشباب العالم".
صدى البلد - 16 آذار, 2011
"الثوري الحقيقي يزيد الفرح في هذا العالم... فالأخلاق والثورة تسيران جنباً إلى جنب"
كمال جنبلاط مع ياسر عرفات... |
صبحي منذر ياغي
كان المطر ينهمر بغزارة في بلدة المختارة الشوفية، عندما وضعت السيدة نظيرة فارس جنبلاط مولودها كمال في السادس من كانون الأول 1917، فغمرت الفرحة زوجها فؤاد جنبلاط، الذي كان مديراً لمنطقة الشوف بقرار عثماني.
وكان قدر الصبي كمال أن يعيش يتيماً بعد اغتيال والده في السادس من آب 1921، على أيدي جماعة شكيب وهاب. مارست الست نظيرة دوراً مميزاً في تربية ابنها كمال ورعايته إلى جانب شقيقته ليندا، وأوكلت إلى المعلم خليل سمعان تدريسه مبادئ اللغة العربية والحساب، والى المربية ماري سلوم، الحائزة إجازة تعليمية من مدرسة اللعازرية في حلب، تدريس كمال وليندا اللغة الفرنسية، وبقية العلوم الأخرى.
في الأول من تشرين الأول 1926 أرسِل كمال إلى مدرسة الآباء اللعازاريين في عينطورة، بنصيحة من صديق العائلة المطران أوغسطينوس البستاني وكانت المدرسة بإدارة الأب إرنست سارلوت.
تلميذ مجتهد ومميز
بدأ كمال الانكباب على الدراسة منذ الأيام الأولى لوصوله إلى عينطورة، وكان من الطلاب المجتهدين بشهادة معلميه، ومن الذين تميزوا بذكائهم الخارق.
في حزيران من العام 1928 حاز كمال الشهادة الابتدائية بفرعيها الفرنسي والعربي. وانتسب في 17 كانون الثاني 1934 إلى منظمة الكشافة الفرنسية التي أسستها مدرسة عينطورة لجعل التلامذة يعتمدون على أنفسهم.
في المرحلة الأولى من البكالوريا، اظهر كمال ميلا إلى العلوم الطبيعية وعلم الإحياء والفلسفة، وفي صيف 1936 أنهى في وقت واحد منهجي الدراسة الثانوية الفرنسي واللبناني، ونال شهادة البكالوريا للمرحلة الأولى في العلوم والآداب. علماً أنه بدءاً من منتصف الثلاثينات، بدأ كمال يعيش نظاماً فرضه على نفسه، من حيث تعمقه في الأفكار الروحانية والفلسفية، واللجوء إلى ما يشبه العزلة للتأمل والتفكير، وبدأ أولى محاولاته الصحافية بالكتابة في مجلة "المعرض" التي كان يصدرها ميشال زكور.
في تشرين الأول من العام 1936، بدأ المرحلة الثانية من البكالوريا، ويقول الأب كوركيه "أن كمال أبدى في الصفوف المتقدمة اهتماماً معمقاً بتاريخ المسيحية، وبدأ بقراءة الإنجيل، ومؤلفات الفلاسفة الكاثوليك كالقديس أوغسطينوس، وألبرتو الكبير، وتوما الأكويني وتركت هذه الأفكار أثرها الكبير في نفسه وأحدثت تحولات في مفاهيمه ونظرته ونمط حياته". ورغم ميل جنبلاط إلى أن يصبح طبيباً أو عالماُ، لكنه نزل عند رغبة والدته الست نظيرة، والتحق بكلية الحقوق في جامعة السوربون في فرنسا عام 1937، وهناك اطلع على كثير من الأفكار الفلسفية واتجاهات الآداب الفرنسية، لكنه عاد من فرنسا إلى لبنان بعد عامين بشهادتين في علم الاجتماع والأخلاق. أما سبب عدم إكماله علومه في فرنسا فيعود إلى الأجواء المشحونة في أوروبا والتي كانت تنذر بنشوب الحرب العالمية الثانية.
هكذا التحق جنبلاط بكلية الحقوق في جامعة القديس يوسف (اليسوعية) في بيروت وأكمل دراسته في الحقوق، وبدأ تدرجه لمدة عام في مكتب المحامي إميل إده.
وبعدما وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها، انصرف جنبلاط إلى مساعدة الفقراء، فأسس عام 1942 جمعية استهلاكية في الشوف لشراء القمح من سوريا وفلسطين، وعمد إلى افتتاح مختبرات كيميائية في بلدة المختارة لاستخراج الصودا الكاوية بالتحليل الكهربائي من أجل تأمين مستلزمات الصابون. ولعل اهتمام جنبلاط بالمساكين والفقراء والكادحين يعود إلى تأثره بمذاهب الاشتراكيين الطوباويين.
الوزير والنائب
قبيل استقلال لبنان بفترة وجيزة انتخب جنبلاط نائباً عن جبل لبنان في صيف 1943، في انتخابات اشرف عليها الرئيس بترو طراد، والمندوب السامي الفرنسي جاك هيللو، والجنرال الإنكليزي إدوارد سبيرس. وكان الدروز قبل تلك الفترة بايعوا جنبلاط زعيماً خلفاً لابن عمه حكمت بك جنبلاط. في 14 كانون الأول 1946 عُيّن جنبلاط وزيراً للاقتصاد في حكومة رياض الصلح، التي عرفت بـ "حكومة الجبابرة" كما أسندت إلى جنبلاط في الوقت نفسه وزارتا الزراعة والشؤون الاجتماعية. وبين الانتداب وجلاء الجيوش الأجنبية عام 1946 بدأ جنبلاط نضالاته الأولى في سبيل إصلاح النظام السياسي نحو العدالة والديموقراطية، وبدأ بخوض معركته ضد الفساد والاختلاسات المعششة في دوائر الدولة. وينقل أحد أصدقاء جنبلاط قوله لسائقه سامي نمور منذ اليوم الأول لدخوله الوزارة: "إياك أن تقوم بعمل يسيء إلى سمعتك وسمعتي، ولا تظن أن كمال جنبلاط سيدافع عنك أو يحميك. يكفينا ما في هذا البلد من قبضايات".
وكان كمال جنبلاط أمضى الفترة التي سبقت دخوله المعترك السياسي في لقاءات وحوارات مع نخبة من كبار المفكرين والسياسيين، أمثال المفكر ميشال شيحا، الزعيم أنطون سعادة، الشاعر سعيد عقل، والأديب الشاعر أمين نخلة، وموريس وبيار الجميل، ونعمة ثابت... وغيرهم. وفي محاضرة له في "الندوة اللبنانية" بعنوان "رسالتي كنائب"، يحدد جنبلاط مهمته ودوره في القيادة السياسية بقوله: "... إن مهمة القائد السياسي المعاصر تبدأ من تحديث الديموقراطية في اتجاهين رئيسيين: الأول حرية الإنسان، والثاني المساواة الجوهرية الطبيعية بين البشر. أما اتجاه الحرية فيتجلى مقروناً بالمساواة الجوهرية، فما الفائدة من أن تقر للمرء حقه في الحياة والعيش عندما يصعب جداً على فئة كبيرة من الشعب أن تعيش؟... الحرية الشخصية، حرية القول، حرية الاجتماعات الهادئة، حرية الفكر، حرية العبادة، كل هذه الحريات جميلة، ولكن يجب أن نتمكن عملياً وواقعياً من التمتع بهذه الحقوق، وهذه الحريات: أعني أن نتمرس بالحرية الشخصية..." .
وأضاف: "... إن رسالتي كنائب تشمل الجوهر في تفهم وتفهيم الديموقراطية الصحيحة لمواطني اللبنانيين. هي في أن أعكس لهم، في تفكيري وشعوري وفي كتاباتي وفي عملي، شيئاً من هذه الروح الإنسانية الخلقية البناءة الانتظامية الرحبة التي يجب أن تسيطر على عقول الأفراد وأعمالهم، وعلى تصرفات الجماعة، فتجعل منهم جميعاً أو من أكثريتهم الساحقة على الأقل مواطنين أكفاء مخلصين... رسالة النائب في أن يشع من حوله هذا الاكتناه وهذا التكريم للشخصية البشرية من حيث هي غاية بحد ذاتها، وللحريات العامة التي ترتكز عليها الحرية الشخصية، حرية المناقشة، حرية الاجتماع، حق تأليف الجمعيات، حق العمل، وحق العيش... وفي هذا السياق تبرز بوضوح صورة النائب الشعبي (القائد السياسي): إنه باني الديموقراطية ومؤسس الدولة".
في الأول من أيار 1949، أعلن كمال جنبلاط ولادة الحزب التقدمي الاشتراكي الذي أسسه مع مجموعة من الشخصيات اللبنانية وهم: ألبير أديب، فريد جبران، الشيخ عبد الله العلايلي، فؤاد رزق، الدكتور جورج حنا، جان نفاع، جميل صوايا. وبدأ الحزب بالانتشار في معظم المدن والمناطق اللبنانية، وانتقل مؤسسوه من ترجمة أفكار الحزب الواردة في ميثاقه إلى مشاريع عمل سياسي وموضوعات لنضالات مرحلية ومقبلة. أصبح الحزب قوة سياسية مسموعة الكلمة، وبدأ خوض الصراع في جو المواجهة المتصاعدة مع النظام الحاكم الذي كان يضمر العداء للحزب التقدمي الاشتراكي ويعارض توجهاته السياسية والاجتماعية. وتعرض عدد من أعضاء الحزب للفصل من وظائفهم في الدوائر الحكومية، حتى أن السلطات رفضت قبول بعض المحازبين في الخدمة في الجيش والدرك. وتوجت الصراعات الخفية بين السلطة وجنبلاط بحادثة الباروك في 18 آذار 1951 وفيها سقط عدد من مناصري جنبلاط برصاص الدرك أثناء اجتماع تحضيري للانتخابات النيابية دعا إليه الحزب التقدمي، وقد أطلق جنبلاط على هذه الحادثة اسم "معمودية الدم"، واتهم الرئيس بشارة الخوري وشقيقه "السلطان سليم" بالتخطيط لها عبر تعليمات أعطيت لضابط الدرك بهيج شحوري.
"الجبهة الاشتراكية الوطنية"
أثناء التحضيرات للانتخابات النيابية عام 1951 اجتمع معارضو الشيخ بشارة الخوري من نواب وناشطين سياسيين وإعلاميين، ليوقعوا وثيقة المعارضة في آذار عام 1951، وتضمنت الوثيقة تسع نقاط أعدها الحزب التقدمي الاشتراكي، دعت إلى العمل والنضال من أجل تأمين سلسلة من المطالب الاجتماعية، وضمان الحريات. وفي أيار 1951 حددت هذه المعارضة برنامج عملها، وحملت اسم "الجبهة الاشتراكية الوطنية"، ضمّت: كمال جنبلاط وأنور الخطيب (عن الحزب التقدمي الاشتراكي)، وبيار اده (عن الكتلة الوطنية)، وغسان تويني (عن الحزب القومي بصورة غير معلنة، بسبب زج قيادة الحزب القومي في السجون، بعد إعدام زعيم الحزب أنطون سعادة في 8 تموز 1949)، وإميل بستاني، وديكران توسباط، وعبد الله الحاج. وتمكنت الجبهة من الفوز بعدد كبير من المقاعد الانتخابية في الانتخابات النيابية عام 1951. وكانت مقالة جنبلاط في جريدة "الأنباء"، في 30 أيار 1952 "جاء بهم الأجنبي فليذهب بهم الشعب" في مثابة البيان السياسي للثورة البيضاء التي أرغمت الرئيس بشارة الخوري على تقديم استقالته في أيلول من العام 1952. لكن وضع جنبلاط مع الرئيس الجديد كميل شمعون لم يكن أفضل حالا.
ويرى الدكتور خليل أحمد خليل "أن جنبلاط استمر في معارضته الشعبية العنيدة، فأنشأ "الجبهة الشعبية الاشتراكية"، ما بين 1953 و1954، وشارك في المؤتمر الوطني للأحزاب والهيئات، وعقد في بيروت أول مؤتمر للأحزاب الاشتراكية العربية. وفي العام 1956 وقف إلى جانب مصر عبد الناصر ضد العدوان الثلاثي، ثم قاد الثورة الوطنية المسلحة عامي 1957 و1958".
ويعتبر الشاعر نجيب جمال الدين، أن من أسباب الثورة التي قادها جنبلاط ضد حليفه القديم الرئيس كميل شمعون "قيام شمعون بتعطيل الحياة النيابية، والانفراد بالعمل، وإضعاف السلطة التشريعية بطغيان السلطة التنفيذية عليها. كذلك اطل عهد شمعون ومحور أنقرة – كراتشي كان البذرة لميثاق حلف بغداد، ولم يتوان الرئيس شمعون عن إعطاء أوامره لقوى الأمن بإطلاق النار على المتظاهرين في بيروت الذين كانوا ينادون بسقوط الأحلاف، فسقط حسان أبو إسماعيل من الحزب التقدمي الاشتراكي...".
أما الكاتبة الألمانية برناديت شينك فتعتبر "... أن العلاقة الشخصية بين جنبلاط وشمعون ساءت منذ تولي الأخير منصب رئيس الجمهورية، فلم يعط جنبلاط – كما كان يأمل – نفوذا أوسع على أمور الحكومة، وبالتالي إمكان تنفيذ برنامجه الاشتراكي الإصلاحي، كذلك لم يكن شمعون مستعدا لاستجابة مطلب جنبلاط بإجراء تحقيق شامل عن نشاطات (الرئيس بشارة) الخوري أثناء توليه منصبه...".
عام 1960 دخل جنبلاط مجلس النواب على رأس كتلة نيابية من 11 نائبا سماها "جبهة النضال الوطني"، وشارك في الحكم في عهد الرئيس شهاب كوزير للتربية، وفي وزارتي التصميم العام والأشغال... ثم بدأ عام 1965 تجربة "جبهة الأحزاب والشخصيات الوطنية والتقدمية"، التي ضمت: الحزب الشيوعي، حركة القوميين العرب، جبهة التحرير العمالي، إضافة إلى سياسيين مستقلين من بينهم معروف سعد، واللواء جميل لحود. وكان المنهج الفكري الذي جمع أطراف الجبهة التمسك بالأفكار الاشتراكية وفكرة القومية العربية في مفهومها الناصري.
عام 1967 شارك جنبلاط في الهيئات العربية والدولية (التضامن الآسيوي الأفريقي، مؤتمر الجزائر، مؤتمر الخرطوم، اتحاد كتاب آسيا وأفريقيا).
ويشير الدكتور خليل أحمد خليل إلى "أنه بعد حرب حزيران 1967 وقف جنبلاط إلى جانب مصر عبد الناصر مؤمناً بقدرة العرب على النصر، متعاطفا ومتضامنا مع النهوض الثوري للشعب العربي الفلسطيني. فقامت في لبنان اللجان والهيئات المساندة للعمل الفدائي، وخاضت نضالاتها البطولية في وجه قمع السلطة في الجنوب والبقاع وبيروت، ولاسيما يوم الثالث والعشرين من نيسان 1969 يوم الانعطاف اللبناني الفلسطيني نحو الثورة على الهزيمة السوداء في حزيران، وحين تشكلت الجبهة العربية المشاركة في الثورة الفلسطينية، انتخب كمال جنبلاط أمينا عاما لها".
ويقول الدكتور فؤاد شاهين في هذا الصدد "إن موقف كمال جنبلاط من الثورة الفلسطينية لم يكن موقفا انتهازيا ولا مصلحيا لأجل استخدام المقاومة الفلسطينية لتحقيق مآرب في السياسة اللبنانية... بل بالعكس كان يقدّم قضية الثورة على أي قضية داخلية منطلقا من الموقف القومي الصحيح بأن للثورة الفلسطينية حقا على كل العرب... فنتيجة لموقفه هذا انتخب رئيسا للجبهة العربية المشاركة في الثورة الفلسطينية".
في 25 تشرين الثاني 1969 شكل الرئيس رشيد كرامي حكومته التي حصل الحزب التقدمي فيها على حقيبتين وزاريتين، فكانت وزارة الداخلية لجنبلاط والموارد المائية والكهربائية لأنور الخطيب، وسجل جنبلاط أثناء توليه حقيبة الداخلية علامة فارقة في تاريخ السياسة اللبنانية، من حيث إيمانه بضرورة تفعيل العمل الحزبي في البلاد المشاركة، وذلك بموافقته على الترخيص للحزب الشيوعي وحزب البعث العربي الاشتراكي الموالي للعراق، ومنظمة حزب البعث الموالية لسوريا، وللحزب السوري القومي الاجتماعي، و"حركة 24 تشرين" برئاسة فاروق المقدم.
في 28 أيلول عام 1970 مات الرئيس جمال عبد الناصر، ووقع هذا الخبر على جنبلاط كالصاعقة، فتوجه إلى مبنى السفارة المصرية في الرملة البيضاء ليقدم تعازيه، ولم يتمالك نفسه وهو ينزل في المصعد، فأطلق العنان لدموعه بصمت وأحس برجفة تعتريه ودوار يصيبه. كان جنبلاط يرى في عبد الناصر بسمارك العرب، وقال في برقية أرسلها لعبد الناصر في 3 آب 1956: "إنني لا أخاف على جمال عبد الناصر من جمال عبد الناصر، ولا أخاف على مصر جمال عبد الناصر... لكني أخاف من الذين يصفقون "للبطل"، لكل بطل في الشرق المريض بانغلاق تعصبه... أخاف منهم وعليهم، أن يحولوا هدف المعركة وروح المعركة إلى غير ما هي عليه...".
الحرب اللبنانية
يعتقد عدد من الباحثين أن كمال جنبلاط أُرغم مكرها على المشاركة في الحرب اللبنانية، وكان يعتبر أن مشاركته فيها هي لإحباط ما كان يراه مؤامرة أميركية – إسرائيلية أخرجها هنري كيسنجر لتقسيم لبنان دويلات طائفية، فضلا عن سعي جنبلاط إلى تطبيق الإصلاحات الديموقراطية في النظام اللبناني والقضاء على الامتيازات السياسية والطائفية والحفاظ على الثورة الفلسطينية.
وفي مقابلة أجراها معه الصحافي الفرنسي فيليب لابوستيرل قال جنبلاط: "أنا لا أحب العنف وإجلالي لغاندي معروف لدى كل المحيطين بي. وأنا اعتبره نبي العصر الحديث الحقيقي لأنه أعاد الأخلاق إلى السياسة... لكني اعتبر كذلك أنه متى كانت لديك مثل عليا، وكانت هذه المثل تتعرض للتهديد، أي إذا كان عليك أن تختار بين الخضوع والعنف فإنه ينبغي لك اختيار العنف".
أضاف جنبلاط: "... كثيرا ما يضطر المرء إلى استخدام العنف المسلح لإنقاذ البشر ولإنقاذ البلاد، ولأنه لا يكون في اليد حيلة أخرى".
حاول جنبلاط إجهاض المؤامرة التي بدأ يتعرض لها لبنان منذ "حادثة البوسطة" في عين الرمانة في 13 نيسان 1975 وذلك عبر اللقاءات المستمرة مع الأحزاب، ومع الزعماء الروحيين والشخصيات السياسية والنواب، في الوقت الذي شهدت فيه البلاد أول "وساطة" بدأتها سوريا لوقف دوامة العنف عبر وزير خارجية سوريا آنذاك عبد الحليم خدام ونائب وزير الدفاع اللواء ناجي جميل، إلا أن كرة العنف والدمار والنار واليباس بدأت تكبر وتمتد لتشمل بيروت وعددا من المناطق اللبنانية، وبدأت رقعة الاشتباكات تتسع، وعمت الفوضى البلاد، وانهارت مؤسسات الدولة، وانقسم الجيش، وانقسمت البلاد إلى معسكرين واندلعت "حرب الآخرين على ارض لبنان". وكان جنبلاط قد وضع البرنامج المرحلي لإصلاح النظام السياسي في لبنان، وانطلق مناضلا مع حركته الوطنية لتحقيق هذا البرنامج.
ويرى الوزير ألبير منصور: "أن ذروة عطاء كمال جنبلاط الفكري والنضالي تتمثل في "الحركة الوطنية" التي بناها، إنها ذروة عطائه لأنها تتميز بخصائص معينة هي خلاصة تجربة كمال جنبلاط الفكرية والنضالية في المجال السياسي".
بينما يعتبر الدكتور مسعود ضاهر "أن جنبلاط انخرط في نضالات يومية دؤوبة من أجل تحضير القوى السياسية البديلة القادرة على التغيير، لان قوى النظام لن تقدم على هذه المهمة، وليس من مصلحتها الطبقية أن تفعل ذلك. لذا دفع بـ"الحركة الوطنية" اللبنانية الذي تسلم قيادتها إلى وحدة حقيقية... وجعل تلاحمها مع المقاومة الفلسطينية تلاحما مصيريا على الساحة اللبنانية".
الدخول العسكري السوري
في الأول من حزيران 1976 دخلت القوات السورية إلى لبنان، إلا أن جنبلاط والأحزاب اليسارية، والقائد الفلسطيني ياسر عرفات ومعه عدد من التنظيمات الفلسطينية عارضوا هذا التدخل. وفي العشرين من تشرين الأول 1976 وافق كل أطراف النزاع: الجبهة اللبنانية، الحركة الوطنية، المقاومة الفلسطينية على قرار وقف إطلاق النار الصادر عن القمة العربية المنعقدة في الرياض، وتشكيل قوات الردع العربية.
يرى الكاتب الروسي إيغور تيموفييف في كتابه "كمال جنبلاط – الرجل والأسطورة" أن "التدخل السوري جاء ليشكل خطرا على مخططات كمال جنبلاط..." (ص 450) ويضيف في مكان آخر: "... تلقى كمال جنبلاط نبأ تدخل السوريين المفاجئ... وهو في اجتماع الأحزاب الوطنية والتقدمية في عاليه، وأخرجه عن طوره لبعض الوقت، فضرب الطاولة بيده حانقا: "نحن مستقلين في هالبلد. ما منقبلش الوصاية يا عمي ما بيقدروش يعملوا وصاية على اللبنانيي...”
وذكر جنبلاط في كتابه "هذه وصيتي": "اذكر لقائي الأخير مع الرئيس الأسد ورفضي إعلان وقف القتال فورا، فقد ساءه ذلك بالتأكيد... وفي خلال المحادثة الأخيرة تكلم الرئيس الأسد بكثير من الصراحة وقال لي: "أصغ إلي، إنها مناسبة تاريخية بالنسبة إلي لتوجيه الموارنة صوب سوريا، وكسب ثقتهم وإقناعهم أن حاميهم ليس فرنسا، وليس الغرب. وينبغي أن نساعدهم على عدم طلب المعونة من الأجنبي، ولهذا فإنني لا استطيع القبول بانتصارك على المعسكر المسيحي في لبنان، فمن شأن ذلك أن يخلق شعورا بالغم والغيظ لديه...".
خيبة الأمل
في أواخر حرب السنتين كتب جنبلاط: "لقد أدركني التعب. أشعر بأني أصارع طواحين الهواء، فالمأثورة التي تقول "الروح قوية ولكن الجسد ضعيف" تصح علي أنا أيضا، ثم كانت هناك كلمة ذلك الحكيم الكبير التي كانت تمثل في ذاكرتي أبدا انك لن تغير العالم، وكل ما أنت مستطيع تغييره هو نفسك".
وتابع: "... أنا على يقين أن هذه الشبيبة اللبنانية ستخرج من الصراع البطولي والقذر، بعيدة عن "الثوروية" وأهلا للقيام بثورة حقيقية. فالثوري الحقيقي الجدير بهذا الاسم هو صانع خلاق يزيد الفرح في هذا العالم، فالأخلاق والثورة تسيران جنباً إلى جنب".
اغتيال "المعلم"
كان جنبلاط يعيش في المرحلة الأخيرة من حياته هاجس تعرضه للموت اغتيالا، واخذ القريبون منه يلحون عليه بمغادرة لبنان، ومنهم العميد ريمون إده الذي اتخذ باريس منفاه، إذ عرض على جنبلاط الانتقال إلى فرنسا، وتشكيل حكومة منفى لبنانية. لكن جنبلاط رفض الفرار وكان يردد دائما: "إن الرجال من آل جنبلاط نادرا ما يموتون على الفراش".
وفي السادس عشر من آذار من العام 1977، أنهى كتابة مقالته لجريدة "الأنباء" التي يصدرها الحزب التقدمي الاشتراكي، وكانت بعنوان "رب اشهد أنني بلغت"، ثم انتقل بسيارته المرسيدس برفقة مرافقيه فوزي شديد، وحافظ الغصيني إلى المختارة. وعلى مفرق دير دوريت كان القدر المشؤوم في انتظار "المعلم". فقد اعترض سيارته عدد من المسلحين "تردد أنهم كانوا من جنود الوحدات الخاصة السورية"، يستقلون سيارة "بونتياك" بيضاء اللون حملت لوحات عراقية إمعانا في التضليل، ليغتالوا جنبلاط مع مرافقيه، في وقت كان فيه المطر ينهمر غزيرا، تماما كمطر يوم مولده... وكأن جنبلاط جاء إلى هذه الأرض بالمطر يملأها خصبا، ثم رحل عنها مضيفا دمه إلى المطر، ليزيد من خصوبة الأرض التي أحب.
النهار - الأحد 11 آذار 2007
كمال جنبلاط والفردوس اللبناني
حين يتحدث أستاذ الفلسفة اللبنانية أنطوان سيف عن حكماء جبل لبنان، في كتاب يحمل هذا العنوان، فإنه يضع بطرس البستاني وكمال جنبلاط وعادل إسماعيل معا، وكمال واحد من الحكماء في لبنان، لكنه فيما يبدو لم يورث حكمته لمن ورثه، وهي الحكمة التي جعلته يكتشف السحر اللبناني دون تصيبه لعنته، ضاربا عرض الحائط بكل ما من شأنه أن يمس لبنان الكبير شيء، ومن أجل ذلك الوطن عارض المحسوبية ودعا إلى المشاركة الحقيقية في الحكم وإقامة التوازن داخله ورفع الهيمنة وحيدة الجانب في مختلف جوانب القرار في الدولة. وكان عليه أن يدفع ضريبة ذلك سياسيا بأن ساءت وتراجعت علاقته مع الرئيس فرنجية، ووصل التراجع ذروته مع أحداث 1973 بين المقاومة الفلسطينية والجيش، ثم على إثر أحداث عين الرمانة في 13 نيسان 1975، التي كانت بداية صراع مسلح مدمر أصاب الشعب اللبناني بخسائر فادحة. وكان دور كمال جنبلاط وحزبه "التقدمي الاشتراكي" مواجهة الكارثة بأقصى ما أمكن من الوعي الحر التقدمي السليم.
آنذاك، كانت رائحة الكراهية تفوح في كل لبنان، بيد أن كمال جنبلاط كرس نفسه أيضا للدعوة لوقف القتال وإزالة الأسباب العميقة التي فجرت الأحداث، وخاصة الصراع بين الحرية ومناوئيها والنظام الطائفي الرجعي المهترئ من جهة أخرى.
ومن أجل اغتيال الكراهية وإصابتها في قمقمها، قدم جنبلاط مشروعا وطنيا للخروج من الصراع والقتال، تبنته أحزاب الحركة الوطنية التي أسسها هو وكان رئيسها وسمى ذلك المشروع "البرنامج المرحلي للإصلاح السياسي في لبنان". وبقي كمال جنبلاط مستمرا في رسالته الإنسانية التقدمية الحضارية المثلى دون رهبة أو خوف رغم ما كان في لبنان من أهوال محدقة به من جميع الجهات. وبينما كان جنبلاط في ذروة عطائه وأوج إمكانياته كزعيم وطني حقيقي موهوب، مدركا بعمق أبعاد الوضع اللبناني، ولا يوجد من يضاهيه في مقدرته على معالجة أزمات لبنان ودك الأخطار عنه اغتيل برصاص غادر في 16 آذار عام 1977، فاتحا النار بغيابه على المستقبل والدولة اللبنانية التي اعتادت الاغتيال، غير انه ترك للبنان سيرة رجل لا يختصره عمل الحزب أو المنصب، فهو سياسي ومثقف ومفكر، غير أن السياسة حوطت سيرته وغطت عليها.
ولطالما حوصرت شخصية كمال جنبلاط في أذهان العامة، وخاصة المثقفين ضمن إطار السياسة والحزب والعمل النيابي، أكثر من تناولها في إطار الفكر السياسي، ومثل تلك المحاصرة تسهل غواية التبويب وعفوية الدراسة، وبخاصة تبويب السيرة بين ثنائيات اليسار واليمين أو التقدمي والرجعي أو الاشتراكية والرأسمالية.
وتبويب حياة الأفراد سياسيا رغم أهميته، إلا أنه يكون مصيدا سهلا لاصطياد الرأي، وتحت هذا التبويب جاء الاختزال، الذي عانت منه سير المفكرين السياسيين، وكمال جنبلاط واحد ممن اختزلوا وقسم في فكره.
تشكل المكون الفكري لكمال جنبلاط من دون انقطاع في سيرورته الغنية والمعقدة، والمتعددة الخبرات، فجاءت شخصية مبنية من عدة مناهل متباينة في الظاهر، أعاد صياغتها وتصالح معها في أكثر من لحظة، ومن خلال عقلية شمولية صوفية عرفانية موصودة بإحكام، ومركبة بطريقة يصعب فصل الصورة عن الإطار فيها.
أمسك كمال جنبلاط بحريته ودفع ثمنها غاليا، وتكشف قراءته للحرية عن انه انخرط في مسلك الحرية عربيا ولبنانيا ودوليا وثقافيا وروحيا وبمستويات مختلفة. ولذا كان لبنان خيارا وطنيا ومحل إجماع حتى في يوم موته.
يقول جنبلاط في كتابه "فيما يتعدى الحرف" "بيروت 1964": "مطلب الحياة العميق مطلب جميع الكائنات الحية هو الحرية والسعادة والوجود أي الحياة الحقيقية" والحرية هنا ليست هدفا ومطلبا خاصا بالإنسان وحده، بل هي مطلب جميع الكائنات، ثم يتحدث عن الحرية والسعادة والوجود، ويرى أن هذه المفردات تشكل ثالوث الحياة.
لم يكن جنبلاط سياسيا حالما بعالم من المدينة الفاضلة بل كان يحلل ويفسر، ويرد الأشياء إلى تاريخها، ففي معرض حديثه عن محور الظاهرة بغداد نجده يقول: إنها تناقضات تنمو وتدوم، كنا نظن أن التاريخ خواها، إنها تناقضات ممفيس الفراعنة وبابل وآشور فهو يرى التناقضات ويبصرها، لكنه لم يقطع علائقه الفكرية بالأصول القديمة ولم يشح ذهنه عن المقاربات الحديثة لأزمات الحضارة المعاصرة، وهو لا يتجاهل الخصوصيات الحضارية والمذهبية الدينية والفكرية ولا يستهين بموضوعيتها وألوانها الخاصة، إلا أنه لا يجعل هذه الخصوصيات تفكر فكره التوحيدي، وهو يرى أن الإسلام هو الواقع المعتقد الجامع الذي تبرز على "ورائيته" جميع العائلات الروحية والمذهبية "فالناس كلهم في النهاية نصارى، وكلهم مسلمون في النهاية".
وهنا فإن قراءة جنبلاط للتاريخ عرضية شاملة، يرى من خلالها الشرق الفسيفسائي "راجع كتابه لبنان في واقعه ومرتجاه ص57". جنبلاط ذو نزعة صوفية توحيدية، كان مولعا بالاكتشافات الحديثة التي فكت رموزها علوم الإنثروبولوجيا، ولذلك فهو مؤمن بالتطورية، وتحت آثار الرغبات وقع كمال جنبلاط تحت تأثير برغسون صاحب كتاب التطور الخلاق وكتاب الطاقة الروحية، وبالتالي كان على جنبلاط أن يسأل عن التطور والدين والعلاقة بينهما.
جمع جنبلاط في شخصيته مختلف الشروط للقيادة، وهي لم تجتمع لمن جاء بعده، ولكنه بنفس الوقت كان يجمع جملة من التناقضات.
لبنان في فكر جنبلاط يمثل وحدة للتعايش ووحدة للحياة، وهو يرى أن السبب في ذلك هو أن كل تناقضات لبنان تجعل منه واقعا منسجما وتسوية معقولة، وتأليفا يحافظ فيه طرفا النقيض وقطبا التعاكس. يصدر تناقض لبنان وتعدديته عند كمال جنبلاط عن قاع تفاؤلي بارز، ليس عبثيا، وهذا ما يذكرنا بماركس وبحثه عن الفردوس الشيوعي الأرضي غير أن جنبلاط يشدد بشكل أساسي على الروح ليس بالمعنى الحقيقي بل بمعنى العبارة الأخلاقي.
لبنان في فكر كمال جنبلاط قائم على التنوع الغريب العجيب، منه يستمد الحرية والسماحة والتقاليد الراسخة في الديمقراطية، ولبنان عند كمال جنبلاط محاولة تأليف ضخمة ومحاولة تعاون وانسجام بين كل الأديان.
ولبنان عنده "وجد لكي يكون بلد العقل وبلد العقلانية" والإنسان هو المستقبل فهو يقول: "الإنسان هو مستقبل الإنسان".
اغتيل كمال جنبلاط مع محاولة لاغتيال لبنان، وكمال جنبلاط اليوم في إرث قابل للاغتيال مرة أخرى وقابل للإحياء دائما، ومن خلال نموذجه الرحب فكرا يمكن النظر إلى أن لبنان دولة قابلة للاستيعاب الكبير لمعاني التعدد بعيدا عن أي محاولة للرسم أو استهداف للتاريخ والوطن والدولة.
انكسر لبنان كثيرا في رموزه، وبعد كل انكسار يعود ناهضا قائما، وفي "كل يوم له احتمال جديد وللمجد فيه مقام"، تاركا الكراهية للآخرين الراغبين في تشويه أرزه أو سلبه فردوسه.
مهند مبيضين - أستاذ التاريخ والحضارة في جامعة فيلادلفيا - جريدة الغد - 19/08/2006
نفتقد كمال جنبلاط
اليوم في ذكرى مولد كمال جنبلاط تعود بنا الذاكرة إلى ما رمى إليه هذا الذي ورث زعامة لينتقل بتصميم هادئ إلى أن يصبح قائداً لحركة إصلاحية جذرية من خلال مبادرته في أيار 1949 تأسيس الحزب التقدمي الاشتراكي مع فريق كان أعضاؤه خميرة أبت أن توصف بـ"النخبة" وأصرت على أن تكون طليعة اختزلت دورها بالتزام أن يكون لبنان وطناً حراً واللبنانيون شعباً سعيداً بمعنى أن يكون الوطن للمواطنين لا إطارا للطوائف، وان سعادة الشعب لا حقوق الطوائف تشكل التحدي لتأمين حقوق الإنسان وحاجته، من خلال اشتراكية منفتحة على قيم توفر منهجاً تطورياً لترسيخ مفهوم المساواة والحرية لا الواحدة على حساب الأخرى كما في النظامين الرأسمالي والشيوعي في مراحل الحرب الباردة.
أما المنهج الذي اتبعه كمال جنبلاط فهو أن يبقى لبنان بمنأى عن أن يكون ساحة لمنافسات الآخرين ثم حروبهم، وبالتالي يجب أن يظل عنصراً مكونا لقوة ثالثة تردع تمادي طغيان الاستقطاب وبالتالي أخطاره، وهكذا كانت قيادته الفذة للحزب الاشتراكي مدماكاً يتم من خلاله تعريف الاستقلال بتجاوز مظاهر السيادة القانونية والشكلية إلى أن تصبح استقلالية الإرادة التي بلورها الحزب الاشتراكي ومارسها مكوناً رئيسياً لحركة عدم الانحياز، مما جعل كمال جنبلاط السياسي والمفكر والقائد مساهماً رئيسياً في ثقافة استقلالية القرار، وكان في تلك الأثناء مع نهرو وعبد الناصر وغيرهما ركناً من أركان الفكر الذي عجّل في حركات التحرر الوطني في القارتين الأفريقية والآسيوية. هذا بدوره جعل كمال جنبلاط يتخطى بشكل ملهم موروث الزعامة التقليدية إلى احد القادة العرب ودورهم في عالم ينظر إلى لبنان لا من حيث الحجم الجغرافي بل من حيث عطاءاته الفكرية والثقافية كما أرادها جيل النهضة الأوائل أمين الريحاني وجبران خليل جبران وميخائيل نعيمة وعمر فاخوري وغيرهم ممن لم يلوّثهم تزمت الطائفيين ومحترفي الانغلاق.
• • •
لماذا هذا الاستذكار اليوم والعالم مهموم بالتداعيات الخطيرة لتسريبات موقع ويكيليكس والتي تعلمنا في لبنان وفي الوطن العربي إجمالا أن التذاكي ليس بديلاً من الذكاء، بل نقيضه، وان بعض مسؤولينا يقولون في السر ما يناقض ما يعلنونه في العلن! وهنا يشكل كمال جنبلاط نموذجاً لاستقامة خطابه العام، لأن ما ينويه كان دائما ما يقوله ويصرّح به ويحاضر فيه، ملتزماً الشفافية والوضوح ومستهدفاً الإقناع ومجتنباً الإملاء. كأنه كان يتصرف بموجب مقولة جبران "لكم لبناننكم ولي لبناني".
في هذا المجال تصبح حرمة الكلمة مصونة، وبالتالي فاعلة، ويتحول الحوار من مسعى، إلى الإيقاع في مصائر، كما شاهدنا، مما يجعل المتربصين للبنان والعرب يعتمدون ازدواجية في القول والعمل، فتفقد العلاقات استقامتها كما تفقد المطالبة بالحقوق الوطنية والقومية نجاعتها، لكون الازدواجية التي مورست كما اكتشفنا تجعل من مسؤولي المصير - لبنانياً وعربياً في حال المواجهة مع مشاعر جماهير الوطن والأمة. إذاً الشفافية المسؤولة والصراحة في خطابنا ومفاوضاتنا تنتزع الاحترام، في حين أن الازدواجية قد تستجلب التربيت على الأكتاف، وهو ما يؤدي إلى مزيج معيب من الاحتقار وادعاء المودة.
من هذا المنظور تعود الذاكرة هذه الأيام إلى ما كان يمثله كمال جنبلاط من صلابة مواقفه ومرونة أدائه. في هذا الزمن الذي يتحول فيه القلق أحياناً إلى خوف، تجيء ذكرى ميلاد هذا الفيلسوف الحكيم كتحريض لنا جميعاً لتوظيف تراثه المعطاء كي نساهم في استعادة ثقافة النهضة، وعظمة التواضع، والنفاذ إلى جوهر الدين وشمولية المقاومة وإنسانيتها، وقد كان حاضناً للمقاومة الفلسطينية وإنقاذها من تيه يعْبث بنجاعتها وإلهامها.
وفي الحالة الراهنة لم يكن كمال جنبلاط ليسمح بأن تتحول المحكمة الدولية الخاصة بلبنان عامل تقسيم أو حكراً على حزب أو تيار، كما لم يكن ليسمح بأن تكون المقاومة إلاّ شاملة، شرعية، محتضنة وعرضة لأن يشمل التزامها حق المراجعات النقدية، حرصاً عليها وعلى شموليتها ووحدتها فلسطينياً ولبنانياً.
نفتقد اليوم رصانة كمال جنبلاط وصلابته وهدوء توجيهاته، ونستذكر أنه طوال مسيرته، كان يتوخى المزيد من المعرفة ما جعله أحياناً يمارس المعارضة، وفي الوقت نفسه ينبذ العداوة حتى في خضم الخصومة.
لعل مدرسة كمال جنبلاط هي اليوم جديرة باستعادة دروسها وسلوكها وبرامجها، فنخرج من هذا الاستقطاب الخطير إلى فضاء رحابة الكرامة والمواطنة والاستقامة اللاغية للازدواجية المعيبة بين "السرّ والعلن"، ونتمكن من القول باعتزاز أن كمال جنبلاط، التلميذ الأنجب للمهاتما غاندي ورفيق جمال عبد الناصر وجواهر لال نهرو... كان من لبناننا العربي!!
كلوفيس مقصود - النهار 05 ديسمبر 2010
كمال جنبلاط |
كمال جنبلاط مع ابنه وليد |
شهادة حياة، سيرة ذاتية لشاهد يتماهى مع موضوعه، مقاربة فلسفية لتاريخ المعلم، كل هذا وغيره نجده في كتاب «مع كمال جنبلاط» (المركز الثقافي العربي). فيه يُبحر الباحث والمؤلف خليل أحمد خليل أبعد مما كانت عليه أطروحته الأولى «ثورة الأمير الحديث»، متماهياً مع «عمود السَّما» ــــ أي كمال جنبلاط كما يصفه الموحدون الدروز ـــــ مفسراً أفكاره وطروحاته وفلسفته.
«عمود السَّما ومعمودية الدم» بهذا العنوان، يشرح الكاتب تعاليم «المعلم» وتوجيهاته، في لقاءات الأربعاء الشهيرة التي كانت تجمعه به هو وغيره من الاشتراكيين التقدميين، داعياً إياهم إلى المحافظة على لبنان وقائلاً لهم: «لا تمزقوا لبنان قميص السيد، فالمسيح عقل الأمم لا الحجارة التي رصفتم بها قلوبكم وقبوركم». وبلغة يتداخل فيها الذاتي بالسياسي، يروي خليل بعض المحطات التي مرت بها الجنبلاطية السياسية، وكيفية انتقالها من وريث إلى وريث. وفي هذا السياق، يفنِّد الكاتب بعض خلاصاته السياسية التي أدرجت في ميثاق «الحزب التقدمي الاشتراكي» على إيقاع الحكمة القديمة والفلسفة السياسية الحديثة، «فالمعلم كان زعيماً مزدوجاً حديثاً/ تقليدياً يخاطب الخاصة بفكره والعامة بخدماته».
كان الرفيق كمال بك كالرائي والشوّاف، يهجس باكراً بالمتغيرات التي ستحدث في المنطقة. هنا، يستحضر خليل حواراً دار بينه وبين المعلم تمحور حول تداعيات هزيمة 1967. يومها، قال جنبلاط: «الهزيمة هذه أشد من نكبة 1948، هي ليست نكسة كما يُقال تخفيفاً من وطأتها. الردّ عليها سيكون بمقاومة عربية ضارية وطويلة جداً». فهل هي مصادفة تاريخية أن تتقاطع رؤيته تلك مع المشهد العربي الراهن؟ وما معنى المد الإسلامي المقاوم لإسرائيل بعدما تراخت حركات التحرر اليسارية والقومية؟ طبعاً لو لم يستشهد «عمود السّما» باكراً، لقدَّم جوابه عن تساؤلنا. لكن موته الذي شعر بدنوّه في 9 آذار (مارس) 1977، منعه من استشراف تحولات الشرق الأوسط الملتهب وانعكاساتها على لبنان.في قراءته لحياة كمال جنبلاط السياسية، يروي الكاتب أهم الملامح التي طبعت نهجه مع جماعته والجماعات اللبنانية الأخرى، وتحديداً الجنوب المحروم الذي أمده بكل ما أوتي من نفوذ لإخراجه من هذه البوتقة عبر إنشائه المدارس وإرسال النخب العلمية لمتابعة دراستهم في الخارج. برأيه، التقدمية إنما هي ثقافة تفاعل وتشارُك. وعلى الضفة الأخرى، يسرد الكاتب علاقة معلمه مع بعض زعماء لبنان أمثال رشيد أفندي الذي كان يخاطبه بـ«رشو»، وكميل شمعون الذي أسقطه في انتخابات الـ 1960 وفؤاد شهاب الذي تحالف معه أربع سنوات قبل أن يفترقا، حين أعلن الجنرال الرئيس عن عدم ثقته بالسياسيّين على خلفية التمديد لولاية ثانية.
من محرابه، انتقد كمال جنبلاط تجربة العديد من القادة اللبنانيين، لكنه في المقابل كان يهجس بإنشاء نظام مساواتي علماني، سرعان ما انطفأ بعد الموت الفجائي لجمال عبد الناصر. لذلك، كما يشير الكاتب، بدأ يعد العدة مع اليسار اللبناني، والثورة الفلسطينية لإنجاز مشروعه الذي أوصله إلى الشهادة، حين أدرك «أن جسده سيقدم قرباناً على مذبح الوطن، متماهياً مع غاندي وسقراط والمسيح».
بعد رحلته في اكتناه مسيرة جنبلاط السياسية، ينتقل الكاتب إلى الدائرة الأخرى، كاشفاً عن شذرات ذات معلمه، أو ما يسميه «ذات الذات»، العابقة بروحية أدب الحياة، في السلوك والمأكل والعلاقة مع الآخر رغم عدائيته، إلى درجة أنّه «قدم نفسه أضحية دون أن يدري على مائدة بناء الدولة الحديثة». في هذه اللحظة التاريخية، يستحضر خليل كيف أنه بعد عودة جنبلاط من جولة على الدول العربية، أخبره الحبيب الشطي وزير الخارجية التونسي في عهد بورقيبة، عن قرار باغتيال جسده، فأجابه «المعلّم»: «مسكين باسكال، ظنّ نفسه قصبةً في رياح الكون. أما نحن فسنديان وصخر، ولسنا وحدنا في العالم».
على حدود الأفكار الفلسفية والوجودية والسياسية وتحولاتها، رسم الكاتب حيوات كمال جنبلاط الذي شاركه أهم محطاتها. وفي إشراقه الأخير على درب «دير دوريت» حيث اغتيل على مدخل البلدة في 16 آذار (مارس) 1977، يخط الكاتب انتقال معلمه إلى شاطئ الأبدية، تاركاً للأجيال العابرة إرثاً سياسياً وثقافياً، على إيقاع الفناء في العقل الكلي.
ريتا فرج - الأخبار عدد الجمعة ٨ كانون الثاني ٢٠١٠
كمال جنبلاط.. مغدور قتلته لم يحاكموا حتى اليوم
هو مفكر وفيلسوف وأحد أهم زعماء لبنان في فترة الحرب الأهلية وما قبلها. ولد كمال فؤاد جنبلاط في بلدة المختارة بقضاء الشوف في لبنان في 6 ديسمبر 1917. والده فؤاد بك جنبلاط اغتيل في 6 أغسطس 1921 في وادي عينبال، وكان قائمقاماً لقضاء الشوف أيام الانتداب الفرنسي على لبنان.
تعود أسرة جنبلاط إلى «الكردية» ويعتقد أن أجدادهم قدموا من كردستان إلى لبنان في العهود الأيوبية، ومعنى جنبلاط باللغة الكردية هي جان-بولات أي (صاحب الروح الفولاذية).
بالرغم من كره كمال جنبلاط للسياسة، منذ صغره، إلا أن ذلك لم يمنعه من المشاركة في مناسبات وطنية عديدة، وذلك منذ العام 1933.
كان يبدي عطفاً خاصاً وتعلقاً بالقضايا العربية، فهو شديد الإعجاب والحماس لسعد زغلول، ومن مواقفه في هذا الصدد ذهابه في العام 1934 عند استقلال مصر إلى رئيس الرهبان في مدرسة عينطورة ليطلب منه أن يعلن ذلك اليوم عطلة احتفاء باستقلال أول دولة عربية، وقد استجاب رئيس الرهبان لهذا الطلب، وكان موقفه هذا أول تعبير سياسي له في ما يتعلق بالقضايا الوطنية والعربية.
في عام 1934 نال كمال جنبلاط الشهادة التكميلية وفي مايو من العام 1934 نال شهادة الكشاف وأصبح عضواً فعالاً في مؤسسة LES SCOUTS DE FRANCE.
نال شهادة البكالوريا - القسم الأول بقسميها اللبناني والفرنسي وبفرعيها الأدبي والعلمي في يونيو 1936، وقد جاء الأول بين طلاب لبنان في الفرع العلمي.
كان ميالاً للرياضيات والعلوم التطبيقية كالجبر والهندسة والفيزياء، وكان ينوي التخصص في الهندسة والسفر إلى البلدان المتخلفة كي يساهم في إعمارها.
في سبتمبر 1937 سافر إلى فرنسا ودخل كلية الآداب في السوربون وحصل على شهادة في علم النفس والتربية المدنية وأخرى في علم الاجتماع.
خلال إقامته في فرنسا تتلمذ على يد العالم الاجتماعي غورفيتش ومعه أنجز شهادته في علم الاجتماع.
في سبتمبر 1939 عاد إلى لبنان بسبب الحرب العالمية الثانية وتابع دراسته في جامعة القديس يوسف فنال إجازة الحقوق عام 1940.
في عامي 1941 - 1942 مارس المحاماة في مكتب المحامي كميل إده في بيروت، وعين محامياً رسمياً للدولة اللبنانية. لم يطل عمله في المحاماة أكثر من سنه إذ توفي ابن عمه حكمت جنبلاط نائب جبل لبنان عام 1943 واضطر حينها إلى دخول المعترك السياسي.
درس مادة الاقتصاد في فترات متقطعة في كلية الحقوق والعلوم السياسية والاقتصادية في الجامعة اللبنانية بدءًا من عام 1960.
كان يجيد ثلاث لغات: العربية، الفرنسية والإنكليزية، وكان ملماً باللغات: الهندية، اللاتينية، الإسبانية والإيطالية.
قرأ القرآن والإنجيل والتوراة وكتب التوحيد والفيدا فيدانتا الهندية. كان متصوفاً ويوغياً.
أسّس ورفيقه كميل أبو صوان نادي القلم في لبنان، ليكون هذا البلد حاضراً بين كتاب العالم.
وصلت مسيرة جنبلاط حتى في 16 مارس 1977 حيث اغتيل مع مرافقيه فوزي شديد وحافظ الغصيني على طريق بعقلين - دير دوريت في كمين مسلح ولم يعرف من هي الجهة المسؤولة عن اغتياله وقد كثرت التأويلات حول الحادثة لكن بالنهاية تجاوز نجل كمال جنبلاط النائب الحالي وليد جنبلاط القضية لينخرط في الحياة السياسية اللبنانية من دون أن تكون مسيرته نسخة طبق الأصل أو حتى قريبة من مسيرة والده.
الوطن القطرية 26/01/2011
لبنان أيام آذار «والسادس عشر» منه أولاً
عادة يفتتح لبنان موسمه كل عام في شهر آذار. شهر بكامله للبكاء والاحتفال، يمارس فيه اللبنانيون طقس الولادة والتجدد. في آذار «واحد» عيد الأرض يبكون الوطن السليب مع مواطنيهم الفلسطينيين. وترجع بهم نار الذاكرة إلى أيامهم السوداء في الشريط المحتل فوراً. وهم محقون في ذلك. وتحين منهم التفاتة حِرّى ومرة إلى باقي التراب اللبناني المحتل في مزارع شبعا وكفرشوبا. وليس بعيداً عنهم كثيراً عدوان تموز 2006 والأيام «33» التي جعلت فيها أسراب الطيران العدو لحمهم ساخناً فيها.
ولأن آذار (واحد) هو كل ذلك وأكثر في ذاكرة اللبنانيين، تراهم كل عام يدخلون في طقس البكاء والاحتفال، لعل آلة العدو الحديدية تنكسر، ولعل الوطن السليب يتحرّر، ولعل العدو ينهزم فيرحل. وليس ذلك على اللبنانيين المقاومين ببعيد.
عندي، لبنان دخل في طقس الولادة والتجدد في منتصف آذار منذ 34 عاماً. فلبنان آذار "16"، كان قد افتتح موسمه عام 1977 بتركيع المقاومة وتطويع اللبنانيين وأخذ طموحاتهم رهينة. ودخل الجبل الثائر والوطن المقاوم دائرة انعدام الوزن، مثله اليوم كما يؤمل له أن يكون.
لبنان آذار "16"، يوم استشهاد الحركة الوطنية اللبنانية والمقاومة الوطنية اللبنانية ومعها المقاومة الفلسطينية، باستشهاد كمال جنبلاط، كان يوماً آخر تماماً. كان بحق يوم انكشاف لبنان أمام إسرائيل. هذا العدو التاريخيّ الذي لا يرحم. ولأننا تعودنا أن ننسى لكثرة ما «تكسرت النصال على النصال»، أحب أن اذكر للتاريخ فقط أنه في منتصف آذار من العام 1978، وبعد عام واحدٍ بالتمام والكمال أي في آذار "14" من ذلك العام، كان قد بدأ الاجتياج الإسرائيلي للأراضي اللبنانية.
تأكيداً على ما أقول أذكر دعوة دولة رئيس مجلس النواب الأستاذ نبيه بري، في مدينة صور (28/1/1995)، إلى اعتبار يوم 14 آذار/ مارس عالمياً من أجل التضامن مع الجنوب: قال «أدعو إلى اعتبار يوم الرابع عشر من آذار، يوماً عالمياً من أجل الجنوب والبقاع الغربي. وللتضامن مع المعتقلين اللبنانيين في سجون الاحتلال الإسرائيلي، وللمطالبة بممارسة ضغط دولي على إسرائيل لتنفيذ قرار مجلس الأمن رقم 425.. وأضاف دولة الرئيس بري: «إن اختيار يوم الرابع عشر من آذار/ مارس يصادف ذكرى الاجتياح الإسرائيلي للأراضي اللبنانية عام 1978. (كتاب 14 آذار، اليوم اللبناني – العالمي من أجل الجنوب والبقاع الغربي وثائق العدوان الإسرائيلي مجلس النواب: المديرية العامة للدراسات والأبحاث 1995، ص 7)
إذاً، لم تنتظر إسرائيل انكشاف لبنان طويلاً بعيد اغتيال واستشهاد المعلم كمال جنبلاط القائد التاريخي للحركة الوطنية اللبنانية في آذار : 16/1977، لأنه صار من السهل عليها في آذار 14 – 15 /1978 اجتياح واجتثاث المقاومين فيه وتدمير حصون المقاومة وقواعدها، وبالتالي تدميرها 400 قرية ومدينة وأكثر من 2000 منـزلاً، واحتلال 1100 كلم مربع من أرض لبنان واستشهاد 560 مواطناً وجرح 653 مواطناً وسقوط 140 شهيداً و50 جريحاً في بلدة واحدة، وذلك فيما أسمته «عملية الليطاني» هل تذكرون عملية الليطاني التي قام بها العدو الإسرائيلي بعد عام على انكشاف لبنان أمامه.
لبنان اليوم آذار "8" و"14" و"15" والسادس عشر منه أولاً، يستشعر الخوف مسبقاً من انكشافه مجدداً أمام العدو الإسرائيلي. وفي هذا السياق نفسه تأتي دعوة ولي الدم، النائب وليد جنبلاط، إلى عدم المشاركة في مظاهرة 13 آذار. إنه الخوف مرّة أخرى بعد 34 عاماً على انكشاف لبنان أمام إسرائيل بدعوة من الطرف السياسي نفسه القديم/ الجديد الذي يحرّض على انكشافه اليوم أمام العدو الإسرائيلي وذلك من خلال الدعوة إلى نزع سلاح المقاومة. والحملة في آذار 13 لاجتثاث سلاح حزب الله إنما هو لاجتثاث المقاومة.
وعلى أساس من الكشف المسبق لقراءة "الما" سيأتي على لبنان بعد نزع سلاح المقاومة الإسلامية وانكشافه وتعريته أمام العجرفة القاتلة والطغيان الإسرائيلي الغشوم، كانت دعوة ولي الدم، النائب جنبلاط لآذار "14" والتي تعظ آذار "8" بإسقاط سلاح الحزب، بأن "الحزب التقدمي الاشتراكي" لن يشارك في مظاهرة 13 آذار وهو وإن كان لم يمنع يوماً أي مواطن من التعبير عن رأيه الحر، إلاّ أنه يعلم وعي الناس ومسؤوليتهم وعدم قبولهم المشاركة في مناسبة: توجُّه بعض خطبائها واضح لناحية الحض على الفتنة والكراهية والتحريض على الطائفية والمذهبية وكشف لبنان أمام إسرائيل وتعريته بالمطلق أمام عدوانها المحتمل في أي وقت (جريدة الأنباء: العدد 2139 – 8 آذار 2011: ص1)
ولأن "من يذق ير" بالكشف الصوفي، فليس بعيداً عنه أن تكون دعوة ولي الدم بالحدس أو بالحس الجنبلاطي، وهو الذي ذاق ومعه لبنان والحركة الوطنية ومقاومتها حملة نزع السلاح من وجه إسرائيل في آذار "16" من العام 1977، تمهيداً لاجتياحه بعد عام فقط في آذار "14-15" 1978، من خلال عملية الليطاني.
ثم كرّت سبحة العدوان الإسرائيلي على لبنان، على وقع إطراءات تنظيف لبنان من السلاح الغريب (الفلسطيني)، فمهّد ذلك لعدوان (14-24) تموز 1981. إذ بدأت إسرائيل حرباً جوية ضد لبنان، وقصفاً مدفعياً مدمراً. وقامت عشرات الطائرات الحربية بشن غاراتها على 46 مدينة وقرية جنوبية امتداداً من صور إلى صيدا والنبطية والزهراني وحاصبيا وراشيا الوادي. وصولاً إلى إقليم الخروب ومنطقة الشوف وهي عقر دار ولي الدم الجنبلاطي – والعاصمة بيروت حيث مركز قيادة الحركة الوطنية اللبنانية ومقاومتها. وقد استهدفت جميع الجسور في الجنوب والبقاع الغربي، وأخطأت جسر الحاصباني، ودمّرت محطة تكرير النفط في الزهراني وسقط 252 شهيداً و920 جريحاً، ودمر 380 منـزلاً.
بالرغم من ذلك فإن أبواق التطهير العرقي لدى الفريق نفسه في آذار "14" اليوم لم تهدأ. بل ظلت تستدعي استكمال المشروع الإسرائيلي للاجتياح الكامل للبنان. فأتت "عملية سلامة الجليل" صباح 6 حزيران 1982 غب الطلب ربما، لأن العدو الإسرائيلي وجدها سانحة، فاحتلت إسرائيل 3/2 من الأراضي اللبنانية وحاصرت العاصمة بيروت واحتلتها 83 يوماً ودكتها بعشرات الآلاف من القذائف التي أطلقتها مئات الدبابات والطائرات والبوارج الحربية. وقد أوقع الغزو 73 ألف شهيد وجريح من اللبنانيين والفلسطينيين، ودمر 33 مدينة وقرية تدميراً تاماً إضافة إلى 16 مخيماً فلسطينياً. وكان معتقل أنصار مثل معتقل أوشفيتز النازي. أما الأضرار فبلغت قيمتها في أربعة أشهر: حزيران وتموز وآب وأيلول 1982 بـ 7 مليارات و622 مليوناً ما يعادل ملياري دولار أميركي.
النائب وليد جنبلاط "ولي دم" آذار "16" العام 1977 يقول "كفى" لآذار "14" اليوم وخصوصاً للفريق نفسه الذي يستدعي العدو الإسرائيلي للتطهير العرقي في لبنان. وهو يتساءل عن استمرار العمى السياسي في العمل السياسي. يخشى على لبنان آذار "14" اليوم ويقول: انتبهوا جيداً لإعادة استجرار العدو الإسرائيلي إلى لبنان من جديد من خلال استجرار خطوط التوتر العالي للفتنة المذهبية والتحريض الطائفي البغيض يوم 13 آذار 2011 لأن السادس عشر من آذار 1977 يجب أن لا تفوته ذاكرتكم. آذار 1977 والسادس عشر منه هو أولاً.
النائب وليد جنبلاط ولي دم آذار "16" يقول لدولة الرئيس سعد الحريري ولي الدم في 13 آذار 2011: انج سعد فقد هلك سعيد، إذا كان لنا جميعاً "لبنان أولاً".
بقلم د. قصي الحسين (الأنباء) - 15 آذار, 2011
كمال جنبلاط: استشهادكم جسر عبور لكل أحرار الثورة العربية المعاصرة
في ذكرى استشهاده الرابعة والثلاثون...وفي ظل هذه الثورة الشعبية الشبابية التي بدأت مع ثورة الياسمين في تونس, وثورة 25 يناير في مصر والثورة الشبابية الدامية التي لا تزال تتأجج في ليبيا شرقا" وغربا", وفي الوقت الذي تتسمر فيه عيون العالم اجمع بشكل عام وعيون العرب بشكل خاص على ثورات اليمن, عمان, الأردن, البحرين,الجزائر, والحبل على الجرار...
وفي أعماق هذه العاصفة النهضوية المشرقطة في كل الزوايا , تحققت نبوءة المعلم وآماله برؤية الوعي والعقلانية والثورة تملأ صدور وعقول الشباب العربي, لتقول لكل الدنيا بأن هذه الأمّة ستعيد أمجادها الغابرة, وكأن هذه الثورة العربية العارمة قد توجهت نحو الفيلسوف الفرنسي جاك آتالي القائل : "خلال الاربعماية سنه القادمة سيكون عصر التفوق الآسيوي على كل الأصعدة الصناعية والاجتماعية والمادية بينما الشعوب العربية ستنقلب إلى ديناصورات ينساها العالم المتحضر" هكذا بالحرف الواحد وبكل وقاحة....ومن المفيد التذكير بما قاله زعماء العالم الغربي عن ثورة الشباب المصري بالذات, كي ندرك مدى عمق نبوءة واستقراء كمال جنبلاط وآماله في الشعب العربي ومدى عنصرية جاك آتالي التي لم تفاجئنا.
* قال الرئيس الأميركي أوباما : "يجب نربي أبناءنا ليصبحوا كشباب مصر".
* رئيس وزراء ايطاليا برلوسكوني قال : "لا جديد في مصر فقد صنع المصريون التاريخ كالعادة".
* رئيس وزراء النروج ستولتنبرغ قال : "اليوم كلنا مصريون".
* رئيس النمسا هاينز فيشر قال : "شعب مصر أعظم شعوب الأرض ويستحق جائزة نوبل للسلام".
* رئيس وزراء بريطانيا قال بالحرف الواحد : "يجب أن ندرس الثورة المصرية في المدارس".
* شبكة السي أن أن قالت : "لأول مرة في التاريخ نرى شعبا" يقوم بثورة ثم ينظف الشوارع بعدها...".
معلمي...بمناسبة ذكرى استشهادك...اسمح لنفسي أن أتوجه ومن خلال بحر علومك وثقافتك وتمرسك في كل مشاعب الحياة وإسرارها, أن أتوجه للشباب العربي الثائر حتى يستفيد من كل جملة وحرف مما خطته أناملك وكل ذلك من نور وقبس إبداعاتك على مدار نصف قرن...
كلامك للثورة والثوار...خوفك على الثورة...تحذيراتك... رؤياك...توجيهاتك... لعلها تصل إلى الذين أحيوا أمل آلامه بشرق جديد وبعصر جديد وبانتصارات جديدة....
1- في جدلية التطور قال المعلم :
- كل شيء ستضربه فأس التغيير...يجب أن لا نخاف من التغيير لأنه قابلة العصر الجديد.
- من يتخلى عن ركب الصيرورة والتقدم, تنساه الحياة في سجل ارتقائها.
- إننا أداة مكلفة في الواقع بتحويل التيار الحي الزاخر بالإمكانيات منذ فجر الحياة إلى فكر وشعور وإشراق وقيم وحق ومحبة وجمال...
- هدف الحياة, هدف التطور, هو إبراز الأفضل والأقوى والأقدر. وفساد المجتمع يكون عندما لا يستطيع أن يبرز الأفضل والأقوى والأقدر.
- أن أحوال العالم والأمم وعوائدهم ونحلهم لا تدوم على وتيرة واحدة, ومنهاج مستقر. إنما هو اختلاف على الأيام والأزمنة وانتقال من حال إلى حال.
2- قال في الدين :
- لو سألتني أي دين يجب أن تعتنق لقلت لك : اعتنق الدين الذي يعجبك. لأن جميع الأديان هي نفسها في النهاية. والجاهل وحده يتعصب لدين معين منها.أن جميع الأديان أشكال مختلفة لجوهر واحد.
- وإنما وجدت الأديان لتثبيت مقاييس الأخلاق في النفوس : فهي أداة لذلك الإنماء والترسيخ ولذا فقد تختلف المعتقدات الدينية كثيرا" بعضها عن بعض, ولكنها لا تختلف ابدأ في تصورها للأخلاق.
3- في السياسة والسياسيين
- السياسة يفترض فيها أن تكون اشرف الآداب إطلاقا.
- إن السياسة مسلك شريف لأن لها علاقة بقيادة الرجال وتوجيههم.
- إن السياسة لا يجوز أن تمارس وينظر إليها وكأنها كنيسة من نوع جديد, إنها علم وفن في آن واحد.
4- قال في الشعوب والجماهير :
- إن الحق قوه والقوه كامنة في الشعب. أما البرلمانات فلا قوة لها ولا وجود ما لم تكن مستندة إلى الشعب.
- إن الجماهير معظم الأحيان هي كالفرد, لا تعرف ماذا تريد, وماذا يليق بها وماذا ينفعها ويضرها ولذا كثيرا" ما تقع فريسة للانتهازيين أو المشعوذين.
5- في العنف الثوري :
- أن الثورة بالطبيعة عمل شعبي وتقدمي.
- أن اليقظة الثورية كفيله تحت كل الظروف بسحق كل تسلل رجعي مهما كانت أساليبه ومهما كانت القوى المساعدة له.
- إذا كان العنف الثوري هو أعلى درجات العمل السياسي فلماذا لا يكون لهذا العنف خلق وانضباط والالتزام بالنزاهة والتجرد عن الهوى وبالمروءة والشهامة.
- الذي يمارس العنف الثوري يجب أن تكون له الكفاءة المعنوية والخلقية لممارسته, وإلا انحدر به العنف إلى مستوى الجريمة والمجرمين ولو أنه أضاف على هذا المسلك العنفي المبتذل صفة "الثورة" و"الثورية".
- إنما الإنسان ينتصر بروحه, وبما يعتمر به من خلق ومن ترفع وتجرد في جميع الحالات : حالة العنف الثوري وحالة اللا عنف الثورية أيضا"... فالثورة مطلوبة في الحالتين, هذه الثورة المعنوية التي بدونها لا يصح لنا أن نمارس مناهج السياسة في الحياة.
- العدالة الاجتماعية والسياسية, كما افهمها, لا تحققها الثورات المسلحة بل تحققها ثورة فكريه روحيه تبني الإنسان من الداخل لا من الخارج.
- أن للعمل العنفي شروط وعناصر يتحتم أن تجتمع فيه لكي لا يرتد عمل العنف في النهاية على صاحبه ولكي لا نتصرف على غير هداية.
- الثورية ليست باعتناق الكلمات الطنانة العنيفة الجوفاء ولا باتخاذ المواقف المجفلة ولا بتهديم كل تقليد ولا باعتماد كل جديد.
ويطيب لي في هذه المناسبة الغالية على قلب كل حر شريف في هذا العالم, أن اذكر مناسبة بقيت في خيالي عندما كنت في زيارة للمعلم في المختارة مع المرحوم والدي وكان رفيق دربنا الأستاذ بشارة غريب الذي كان رفيق دراسة للمعلم في معهد عينطورة للآباء اللعازاريين عام 1962 , وعندما جلسنا معه بادر المعلم الأستاذ بشارة بطريقة المزح التي كان يتحلى بها : شو أستاذ بشارة شو عم تعمل هالأيام؟؟ رد الأستاذ بشارة : أنا حاليا" مستشار شركة زيدان هاوس لصناعة السقالات الحديدية ووصلت صادرتنا إلى 30 دولة عبر العالم والمهندس محمود بيقدر يخبرك عن إيران والشرق الأقصى اللي هوي مسؤول عن المبيعات فيهم؟ فما كان من المعلم وبطريقة جميله رد : منيح يا عمي اللي هالشركة بعدها واقفة على رجليها طالما أنت مستشارها!! وضج الحاضرون بالضحك من القلب!! وكانت جلسة جميله لن أنساها مدى العمر واذكر جيدا" أن المعلم الخالد سرد لنا قصة كان يسردها في لقاءاته الحميمة وهذا ليس (ادعاء) : "رأى ديوجين موكبا" ضخما" قادما" إليه فاعتدل قليلا", واتكأ على دنه, فلما رأى العاهل, تأمل وجهه, وبادره العاهل بالتحية ثم عرفه بنفسه "أنا الملك الإسكندر" فأجابه "وأنا ديوجين" فسأله ألا تخشاني؟؟ ففوجئ به يسأله: "وهل أنت طيب أم سيء؟"
فأجابه الإسكندر "بل طيب" فرد عليه ديوجين: "ومن يخشى الطيب"؟؟ وتابع المعلم قائلا "وموجها" حديثه لعشرات الأشخاص الذين كانوا يصغون إليه في تلك اللحظات الخالدات: "يا عمي الأخلاق الكريمة تغل طعاما" للجائع, وكساء للعريان, ومأوى للعاجز, وحضانة لليتيم, وعلاجا" للمريض ومؤاساة للبائس وإسعافا" للمنكوب وإحسانا" لجميع الناس".
معلمي وفي هذه الأيام المفصلية التاريخية التي تمر بها ليبيا وتعنت القذافي الأعمى وصولا" إلى تصريحه الأخير الذي لم يتجرأ عبر التاريخ الحديث والقديم أي زعيم عربي أن يقوله مباشرة أو غير مباشرة وهو انه إذا سقط الحكم في ليبيا ووقعت السلطة في يد ( الخونة) الثوار كما سماهم فهناك خطر على دول البحر المتوسط وأوروبا وإسرائيل....نعم قال إسرائيل بكل عنجهية ونكران للعروبة...
معلمي قلت في أحد كتبك :
"ويؤلمك يا نفسي أن تري تاج الجمال على مفرق البشاعة وصولجان الحق من يد الباطل, وطيلسان العفة على منكب الفجور... فاحذري من أن تكون البشاعة بشاعتك وأن يكون الباطل باطلك والفجور فجورك". وكأنك معلمي تؤشر على هذا الفالت من عقاله العقيد الذي حمل ذات يوم صفة "أمين القومية العربية" التي أطلقها عليه الزعيم الخالد جمال عبد الناصر.
سأنهي كلمتي ومقالتي المتواضعة بتلك الجملة التي ستبقى خالدة في ضميرنا وضمير الثوار العرب وفي العالم أجمع: "على رنين معاولنا وعلى صدى هتافات الأبطال فينا سيستيقظ الشرق الجاثم في سلاسل الفقر والجهل والعبودية".
محمود الأحمدية (الأنباء) - 16 آذار, 2011
... "والتفّ الجبل حول وليده"
طبعاً لا يستطيع أحد أن ينكر "جمالية" المشهد الذي تجلّى بساحة الشهداء نهار الأحد الفائت في 13 آذار إن لناحية سلميّة وحضارية التحرّك، أو لناحية الاعتراف بأحقّية كل مواطن لبناني بأن يعبّر عن رأيه تحت سقف القوانين اللبنانية، وتحت سقف احترام الرأي الآخر أيضًا.
وفي حين كان لهذا المشهد الـ14 آذاري المتجدد تداعيات عديدة أبرزَتها طرق التعاطي المختلفة لوسائل إعلام محسوبة على قوى 8 آذار أو حتى لسياسيي هذه القوى معه، الذين سارعوا إلى الدخول في لعبة الأرقام وقياس مساحة الساحات والتنظير حول ما إذا استطاعت قوى 14 آذار جمع مليون متظاهر أم لا، كان هناك موقف آخر من هذا التجمع لافتٌ في أبعاده ومضمونه وتداعياته، وهو لا شك موقف "الحزب التقدمي الاشتراكي" الذي كان لسنوات مضت أحد أعمدة تجمع قوى 14 آذار فيما هذا العام اقتصرت مشاركته على بعض "الخوارج".
لا ينكر قياديو "التقدمي الاشتراكي" أن مشاركةً من قرى الجبل وحاصبيا وراشيا حصلت في مهرجان 13 آذار، ولا يجدون أي مشكلة في هذا الأمر سيّما وأنهم يعترفون بأن لهؤلاء الحق كما لأي مواطن آخر في التعبير عن آرائهم، لكن عامل الراحة الأكبر لدى قيادة "التقدمي" جاء معطوفاً على النسبة الضئيلة التي شاركت من قرى الجبل في تجمّع 13 آذار، وهو ما يؤشر إلى عكس ما كان يشيع له فريق 14 آذار عن ابتعادٍ في الخيارات بين رئيس "جبهة النضال الوطني" النائب وليد جنبلاط وجمهوره. هذه المشاركة الضئيلة دفعت بجنبلاط كذلك إلى توجيه التحية لجمهوره الذي أبدى هذا "التفهم التام للخيارات السياسية التي تصبّ في حماية السلم الأهلي والاستقرار الداخلي"، مؤكداً في الوقت عينه "التمسك بالمصالحة التاريخية في الجبل مع الكاردينال مار نصر الله بطرس صفير وبمصالحة أيّار 2008، وكلاهما يكرسان العيش المشترك بكل تلاوينه وتنوعه".
وفي هذا السياق، أوضح مفوض الإعلام في "الحزب التقدمي الاشتراكي" رامي الريس في حديث إلى "صدى البلد" أن حجم المشاركة من مناطق الجبل وحاصبيا وراشيا في 14 آذار "عكس الحجم الحقيقي للناس المقتنعين بصوابية خيار التظاهر، وقد جاء عدد هؤلاء محدوداً جداً لا يتعدّى الخمسمئة شخص، فيما كانت بعض وسائل الإعلام غارقة في التركيز على هؤلاء إلى درجة كادت أن تنسى هدف التظاهرة الأساس، وهذا ما يشير بالتأكيد إلى ظهور ثبات فعلي والتفاف تام حول موقف الحزب ورئيسه وليد جنبلاط في الجبل وقرى حاصبيا وراشيا، كما أن هذه المشاركة وإن كانت قليلة لقلّة المقتنعين بها، فهي أشارت أيضًا إلى أن الحزب لم يمارس أي ضغط على أهالي الجبل، وقد شارك من يريد منهم التظاهر، فيما أثبتت الغالبية العظمى أنها تؤيد الخيارات السياسية للحزب، وانحيازه إلى السلم الأهلي والاستقرار الداخلي".
هذا وكان واضحًا أن جنبلاط في موقفه الأسبوعي لجريدة "الأنباء" الصادرة عن "الحزب التقدمي الاشتراكي"، قد أعطى لقوى 14 آذار ما لها لناحية الالتفاف الشعبي الذي لا زالت تتمتع به، وما لها أيضًا لجهة حقّها في التعبير سلميًا عن وجهة نظرها، بل هو ذهب أكثر من ذلك في التأكيد مع هذه القوى على "رفض استخدام السلاح في الداخل"، إلا أنه خالفهم في الأسلوب، إذ انتقد "التلهّي في الخطابات التي لا تؤدي سوى إلى التوتير الطائفي والمذهبي"، داعيًا في مقابل ذلك إلى "امتلاك كل عناصر القوة لمواجهة إٍسرائيل" والإسراع بالتوازي في "تفعيل هيئة الحوار الوطني للوصول إلى استراتيجية دفاعية تؤمن حماية لبنان وتعمل على استيعاب سلاح المقاومة في المؤسسة العسكرية في الظروف الملائمة". وفي هذا الإطار جاء أيضًا المقال الذي نشره موقع "الحزب التقدمي الاشتراكي" على الإنترنت والذي دعا إلى "عدم التعاطي بخفة" مع مشهد تجمع 14 آذار، فكان موقف جنبلاط في "الأنباء" ومقال الموقع الإلكتروني للحزب شكلَين لحقيقة واحدة، وإن كان لموقف الموقع الإلكتروني بعداً آخر مخفيّ فهِمَهُ المعنيون فوراً وبادروا إلى زيارة كليمنصو.
وفيما كانت مصادر موثوقة تؤكد لـ "صدى البلد" أن المقال الذي نشره موقع "التقدمي"، ورغم أنه ليس الموقف الحزبي الرسمي "حمل رسائل باتجاهات مختلفة وقد أدّى غرضه"، أكد الريس من جهته لـ"صدى البلد" أن "الموقف الرسمي للحزب يُعلَن من خلال رئيسه أو قياديه الرسميين أو مفوضية الإعلام، أما بعض ما يتم وضعه على الموقع الالكتروني للحزب من مقالات فهي تأتي في سياق الصفة الإخبارية للموقع"، مشيراً إلى أن "المقال ذكر كاتبه أن مضمون الحديث يعود لمصادر سياسية، وهي ليست بالضرورة أن تكون مصادر في الحزب التقدمي الاشتراكي"، داعيًا كذلك إلى عدم تحميل الأمر أكثر ممّا يحتمل.
وردًا على سؤال، حول ما إذا كان المشهد السياسي بعد نهار الأحد يوحي بتصعيد كبير في البلد، أجاب الريس: "لسنا من محبّذي التصعيد من أي جهة أتى، ولسنا مع انقطاع التواصل بين الفرقاء في البلد مهما كان حجم ونوع الخلاف القائم، وكلنا يذكر ما أدى إليه التصعيد وانقطاع التواصل في الأمس القريب في أيار 2008، وبالتالي فإن انقطاع كل خطوط التواصل اليوم يجعلنا نطرح سؤالاً حول كيفية إيجاد الحلول"، وتابع: "هذه الحلول لا تأتي بالكباش السياسي الذي سيدفع بالبلد إلى حائط مسدود ولا عبر المستحيلات بل بالحوار وحده".
وحول شعار قوى 14 آذار"لأ للسلاح"، جدد الريس القول: "نحن لا نوافق على استخدام السلاح في الداخل، لأنه خيار مدمّر للوحدة الوطنية ولكل الإنجازات التي تحققت في مرحلة ما بعد اتفاق الطائف، لكن لغة التحريض على السلاح هي أيضًا خيار مدمّر"، لافتاً إلى أن "الحديث عن السلاح في مواجهة إٍسرائيل يجب أن يأخذ بعداً آخر أكثر دقّةً ووضوحاً، خصوصًا وأن الجميع يعلم أن الجهات الدولية التي تدّعي الحرص على قيام الدولة في لبنان، هي ذاتها التي تدعم إسرائيل لتكريس احتلالها ولا تضغط عليها لتطبيق القرار 1701 بل تحمي كل ممارساتها الاستفزازية والعدوانية وانتهاكاتها اليومية لهذا القرار، كما تمنع إدانتها في مجلس الأمن الدولي، وتمنع أيضًا وصول السلاح النوعي للجيش اللبناني، وهذا ما يتطلب الجلوس سوياً لبحث كيفية اختيار أفضل السبل لحماية وتقوية مناعة لبنان بعيداً عن التصعيد الداخلي المتبادل، وليكن هدف الجميع التمسك بالثوابت الوطنية الكبرى في تحديد العدو والصديق، والعلاقة المميزة مع سوريا، وضرورة تحصين لبنان ومنع أي انزلاق فيه نحو الفتنة".
صالح حديفة (صدى البلد)- 16 آذار, 2011
كمال جنبلاط |
في ذكرى استشهاده الـ 34 وفي زمن يجرف إنسان هذا العصر بمغريات مادية غريبة تشوه "المعايير الثابتة للإنسان" نستذكر كمال جنبلاط من خلال تراثه الفكري القيّم وتجربته الشخصية، التي تخطى من خلالها الحدود الضيقة التي لم تقيده بأسوار قصره وطائفته وبلده، محذراً من " السجن الكبير الذي دخله عالمنا العربي منذ أواخر القرن الماضي.
تصادف ذكراه هذا العام مع ثورات عربية هزت عروش الحكام ، معبرة عن وعي كبير للشارع المنتفض، الذي خاطبه كمال جنبلاط ودعاه مراراً إلى دفن الإنسان التقليدي الغرائزي القديم وبعث الإنسان الجديد . ويتذكر الصحافي والكاتب عزت صافي كما جنبلاط ، الذي رافقه طيلة حياته في مكاتب الأنباء وفي قصر المختارة في الأيام البيض والسود ويقول" لو وصلت أفكار كمال جنبلاط في التقدمية والاشتراكية إلى العالم العربي الذي تلحفت أنظمته بالاشتراكية بعيداً عن شعوبها وحقها في الحرية لما وصلت الأمور إلى ما آلت إليه"
يعتبر صافي أن كمال جنبلاط تخطى طائفته، ليس بمعنى انه خرج منها إنما بالبعد الثقافي والحضاري والسياسي، فنجح في استثمار شعبيته تحت راية جديدة، راية الحزب التقدمي الاشتراكي الذي اخترق كل الطوائف والمناطق فور تأسيسه. كما اخترق بشخصيته المميزة المدى العربي، من خلال إقامة علاقات بالأحزاب الاشتراكية العربية، في العراق وسورية والمغرب، بالإضافة إلى ثقافته التي بدأت تتكون في المرحلة الثانوية ، وتبلورت أثناء دراسته في فرنسا حيث اطلع على تاريخ التجربة السياسية والأحزاب الاشتراكية.
وفي مطلع العام 1949 نجح في إرساء نظريته في التقدمية الاشتراكية بطابعها الإنساني التي وصفها صافي بالفاصل الواصل ما بين القومية العربية ذات الطابع اليساري والاشتراكية الشيوعية الماركسية التي ما لبثت أن تحولت ستالينية . ويعتبر صافي أن سقوط الاتحاد السوفياتي ، الذي كان يجمعه كل هذه الثقافات والشعوب في قالب واحد فيها كانت الحريات معدومة بالكامل ، والدول التي نشأت من بعد سقوطه طبقت الاشتراكية ولو لم تنشأ تحت رايتها وفيها مجال من الحرية والانفتاح، يثبت نظرية كمال جنبلاط في التقدمية الإنسانية والمختلفة بأبعادها ومنطلقاتها وأهدافها . والأمر ينطبق كذلك على الأنظمة العربية التي سقطت وتسقط فيما تنفذ جرائمها تحت راية الاشتراكية. ويقول صافي أن الأحداث اليوم تأتي لتؤكد نظرة كمال جنبلاط ولو وصلت أفكاره إلى العالم العربي لما وصلنا إلى هذا الحد من يأس الشعوب وما كانت إسرائيل ادعت بأنها الديمقراطية الأوحد في الشرق الأوسط.
تميز كمال جنبلاط بحياة غنية متنوعة على بساطتها ويقول صافي " كانت غرفتي في قصر المختارة أفضل من غرفته"، وكان يأكل من الطعام اللبناني القديم وما كان يهمل خصائص الجسد أو صحته إلا في وقت الأزمات الكبيرة، وكان يقول عن السياسة إنها "شغلة" ولا يصرف لها الكثير من وقته، إلا أنه على تماس دائم مع هموم الناس ومشاكلهم ومد الجسور الثقة بينه وبين القاعدة، ويضيف صافي انه عندما كان يخاطب الآلاف لم يكن بحاجة إلى شهادة ليؤكد للناس بأنه منهم. وكان يثق جداً بنفسه وبسلوكه وعندما يشعر بأنه اخطأ كانت لديه الجرأة بنفس الوقت أن يعترف بخطئه، وكان شديد الحرص على الحق العام وعلى تحريض المواطن اللبناني والعربي على أن يعرق حقوقه.
ترك كمال جنبلاط تراثا فكريا قيماً وكان من ابرز كتبه " أدب الحياة" والذي نقل فيه سلوك القرية وأخلاق وآداب القرية، ببعد روحاني وحضاري، وكان يخاطب فيه نفسه قبل أن يخاطب أي احد آخر، ويروي صافي انه لم يره يوماً جالساً واضعاً" رجل فوق رجل"، أو تكلم بشكل جارح ولو كان يعرف حتى أن من يكلمه لا يستحق الاحترام. فأدب الحياة فيه الكثير من أخلاقيات القرى، التي لم يتعلموها في مدرسة، إنما هم جماعات تتشارك مآتمها وأفراحها ، تسهر وتتصاهر، والاحترام الكبير أمر مهم جداً بالنسبة لهم، حتى أنهم يكلمون خصمهم باحترام. إلا أن صافي يعود ليقول بغضة كان هذا قبل الـ 75، فالحرب زعزعت السلوك، وكان المطلوب حينها، مين يحارب". والمسلح "ما بيخضع للجنة اختبار"، المهم أن يتقن حمل السلاح. وبعدما كانت الحرب تحمع تيارات يسارية ووطنية وعلمانية تريد الإصلاح وبناء الدولة تحولت إلى ميليشيات طائفية تعيث فساداً. ارتكبت ما ارتكبته باسم الأحزاب الوطنية الاشتراكية ،" الحرب الداخلية تزعزع كل قيم وأخلاقيات" يقول صافي.
وكان كمال جنبلاط يتميز بأنه يقرأ بصوت مرتفع وكأنه يخاطب نفسه، وكذلك عندما يكتب كان يخاطب الناس بطريقة غير مباشرة، مع العلم انه كان شديد الاحترام لكبار العلم والنفس، وما كان ليهمل الآخرين ولكنه كان يكره أذلاء النفس، من اجل مال وسلطان، ومن هنا كان يعتبر أن الديمقراطية في البلدان المختلفة لا معنى لها، فهؤلاء المدمنون على الرشوة والفساد والذل بإمكانهم أن يسقطوا الشخص المناسب والنظيف ليختاروا السيئ. وهنا كان يشدد على أهمية القانون والنزاهة والقاضي كأساس للنظام الديمقراطي الاشتراكي وأساس الدول الديمقراطية الناجحة والدول الرأسمالية الناجحة. فحتى المال يستثمر في الدول التي تتمتع بقانون ومحاسبة. وكان حريصاً على جيل الشباب الذي حاول أن يخاطبه قائلاً " عايشنا جيلا من الناس في أواسط عمرنا، أغرته مفاهيم سطحية كثيرة كالديمقراطية والسيادة الشعبية، والتقدم والتحرر والاشتراكية والثورة وسواها، ولم ننفذ إلى حقيقة هذه المعايير والمفاهيم، فأضحى يهيم على وجهه ، يطلب هذه الأشياء، كما برزت له في سطحيتها، فلا يجدها، وهي في الواقع معضلة شباب عصرنا وشباب العالم".
صدى البلد - 16 آذار, 2011
0 تعليقات::
إرسال تعليق