الحرية لغة، مفردات وقاموس، نتعلمها كما يتعلم الأطفال أولى كلماتهم، وكيف يخطون أولى خطواتهم، فإن لم يكن لدينا قاموس الحرية، فلا يجب أن نتوقع أن نولدها من قاموس التسلط. أخشى أن نستسهل، كمصريين، العودة للركون إلى وهم الديكتاتورية الذي اعتدنا عليه وانتظمت عليه حياتنا، بدلا من حرية لم نعتد عليها نمشي فيها كجلباب واسع نتعثر في أطرافه فنقع بدلا من المرة مرات، لدرجة ننسى فيها أننا قد تعلمنا المشي يوما من الأيام. أكتب عن راحة الركون إلى الوهم وفي ذهني ما رأيته في مصر منذ الخامس والعشرين من يناير (كانون الثاني) 2011 حتى عزل مبارك عن الحكم يوم 11 فبراير (شباط) من السنة ذاتها. خلال الثمانية عشر يوما سقطت أمام عيني كل أوهام الدولة المصرية الديكتاتورية التي لم يكن مبارك يحكمنا بها، بل كنا نحكم بها أنفسنا، كنا نحكم أنفسنا بوهم الدولة البوليسية القادرة على كل شيء، التي تسمع دبيب النمل على الأرض وتتنصت على ما يقوله الابن لأبيه. لكن ما خبرناه أيام الثورة أن الدولة كانت كبيت العنكبوت، عهنا منفوشا خلناه جبلا من جليد أو من صخور بيضاء. نحن من صنع وهم الدولة البوليسية، نحن من حكمنا على أنفسنا بالخوف، وسجنَّا أنفسنا بالقصص الوهمية حول قوة النظام، قصص نسجناها حول رقابنا حتى كاد الوهم يخنقنا. لم يكن مبارك ديكتاتورا، بل صنعناه، ولم تكن هناك دولة قوية بل ألفناها في رؤوسنا، كان صرحا من خيال فهوى، و«يا فرعون مين فرعنك؟!».
الديكتاتورية هي حكم الشعب للشعب وبالشعب. والديمقراطية مغايرة لذلك تماما، الديمقراطية هي إدارة البعض لشؤون الشعب العامة نيابة عن الشعب. أما حكم الشعب للشعب وبالشعب فكانت قدرتنا الخارقة على صناعة سجون من الوهم عشنا فيها، فالعالم كما ننسجه بحكاياتنا، فإذا كانت الحكايات تمنح الرئتين مساحات التنفس كانت هناك الحرية، أما إذا كانت الحكايات كهباب ينبعث من نار خانقة فهذا هو سجن الديكتاتورية. وكان التلفزيون الرسمي بمثابة الجدة التي تحكي لنا تلك القصص قبل النوم، ليطل من على شاشته صفوت الشريف يخيف أبناء الشعب المصري كأنهم أطفال صغار يهددهم بـ«أمّنا الغولة»، فينامون في خوف من البوليس والجيش وأمن الدولة، على الرغم من أنه لم يكن هناك أمن دولة بذاك القدر المنظم المبرمج بقدر ما كان هناك وهم خرافي حول أمن الدولة.. فقد قابلت مرارا ضباطا من أمن الدولة ولم أتوسم فيهم ولو القدر المحمود من الذكاء الذي يتيح لهم القدرة على تنظيم المعلومات أو المعرفة.. فكيف صنعت منهم الحكايات جبابرة؟ وما تلك الرغبة الدفينة التي تجعلنا نستثمر كل يوم في صناعة الوهم؟ وإن كان المصريون يصنعون سجانيهم بأيديهم، فما الجديد بعد الثورة، الذي سوف يجعلهم يفعلون شيئا مغايرا؟
في ميدان التحرير، كنت أتأمل الوجوه ولديَّ رغبة دفينة بأن المصريين بالفعل يصنعون الثورة، بمعنى: كنت أخشى أن الدافع الجمعي اللاواعي لخروج المصريين هو أنهم استنفدوا قدراتهم في صناعة وهم الديكتاتورية، وأنهم يبحثون عن غزل آخر لينسجوا منه وهما جديدا. المصريون طيبون، صدقوا ما يقال عنهم من أنهم أخف الشعوب العربية دما، فكتبوا لافتات في الميدان تقول: «ارحل أنا إيدي وجعتني.. وطير انت»، كان ذلك مضحكا ومسليا للعالم، وكان مقلقا لي كدارس للعلوم السياسية والمجتمعات؛ لأنني رأيت فيه محاولة لبداية حكي جديد غير منظم.. شيء أشبه بالطفل عندما يتعلم الكلام، كان المصريون يحاولون تعلم كلام الحرية، فجاء الكلام متلعثما ومرتبكا.
حتى هذه اللحظة يبدو المصريون وكأنهم مشدوهون وقد فاجأوا أنفسهم.. الرجل رحل، ولا يدرون ماذا يريدون بعد ذلك. كان هدفا ووهما اختفى، ومع ذلك كان يمثل، على الرغم من كل ضجرهم منه، استقرارا لعالمهم، كما كان بن لادن مثلا يمثل استقرارا للعقل الأميركي، عقول لا ترتاح إلا بوجود عدو وهمي من صنعهم، متى ما غاب عنهم «لاصوا» وتاهوا، وفقدوا البصيرة والقدرة على التركيز فيما هو بديهي. إنها حالة التوهان والدوار التي تصيب الناس عندما يفقدون القدرة على تحديد الاتجاهات الأصلية. المصريون اليوم يريدون، بلا شك، أن يصنعوا الحرية، لكن ليس لديهم في قاموسهم من تراث الحكي ما يصنع هذا الحلم الجميل، فهل تستطيع كلمات وأحاجي الديكتاتورية التي كانت تخيف المصريين، قبل اليوم، أن تكون المادة ذاتها لقاموس جديد عن الحرية، قادر على صناعة وهم الحرية؟ حتى هذا اليوم لديَّ شك كبير.
مأمون فندي - الشرق الأوسط 8 مايو 2011
الديكتاتورية هي حكم الشعب للشعب وبالشعب. والديمقراطية مغايرة لذلك تماما، الديمقراطية هي إدارة البعض لشؤون الشعب العامة نيابة عن الشعب. أما حكم الشعب للشعب وبالشعب فكانت قدرتنا الخارقة على صناعة سجون من الوهم عشنا فيها، فالعالم كما ننسجه بحكاياتنا، فإذا كانت الحكايات تمنح الرئتين مساحات التنفس كانت هناك الحرية، أما إذا كانت الحكايات كهباب ينبعث من نار خانقة فهذا هو سجن الديكتاتورية. وكان التلفزيون الرسمي بمثابة الجدة التي تحكي لنا تلك القصص قبل النوم، ليطل من على شاشته صفوت الشريف يخيف أبناء الشعب المصري كأنهم أطفال صغار يهددهم بـ«أمّنا الغولة»، فينامون في خوف من البوليس والجيش وأمن الدولة، على الرغم من أنه لم يكن هناك أمن دولة بذاك القدر المنظم المبرمج بقدر ما كان هناك وهم خرافي حول أمن الدولة.. فقد قابلت مرارا ضباطا من أمن الدولة ولم أتوسم فيهم ولو القدر المحمود من الذكاء الذي يتيح لهم القدرة على تنظيم المعلومات أو المعرفة.. فكيف صنعت منهم الحكايات جبابرة؟ وما تلك الرغبة الدفينة التي تجعلنا نستثمر كل يوم في صناعة الوهم؟ وإن كان المصريون يصنعون سجانيهم بأيديهم، فما الجديد بعد الثورة، الذي سوف يجعلهم يفعلون شيئا مغايرا؟
في ميدان التحرير، كنت أتأمل الوجوه ولديَّ رغبة دفينة بأن المصريين بالفعل يصنعون الثورة، بمعنى: كنت أخشى أن الدافع الجمعي اللاواعي لخروج المصريين هو أنهم استنفدوا قدراتهم في صناعة وهم الديكتاتورية، وأنهم يبحثون عن غزل آخر لينسجوا منه وهما جديدا. المصريون طيبون، صدقوا ما يقال عنهم من أنهم أخف الشعوب العربية دما، فكتبوا لافتات في الميدان تقول: «ارحل أنا إيدي وجعتني.. وطير انت»، كان ذلك مضحكا ومسليا للعالم، وكان مقلقا لي كدارس للعلوم السياسية والمجتمعات؛ لأنني رأيت فيه محاولة لبداية حكي جديد غير منظم.. شيء أشبه بالطفل عندما يتعلم الكلام، كان المصريون يحاولون تعلم كلام الحرية، فجاء الكلام متلعثما ومرتبكا.
حتى هذه اللحظة يبدو المصريون وكأنهم مشدوهون وقد فاجأوا أنفسهم.. الرجل رحل، ولا يدرون ماذا يريدون بعد ذلك. كان هدفا ووهما اختفى، ومع ذلك كان يمثل، على الرغم من كل ضجرهم منه، استقرارا لعالمهم، كما كان بن لادن مثلا يمثل استقرارا للعقل الأميركي، عقول لا ترتاح إلا بوجود عدو وهمي من صنعهم، متى ما غاب عنهم «لاصوا» وتاهوا، وفقدوا البصيرة والقدرة على التركيز فيما هو بديهي. إنها حالة التوهان والدوار التي تصيب الناس عندما يفقدون القدرة على تحديد الاتجاهات الأصلية. المصريون اليوم يريدون، بلا شك، أن يصنعوا الحرية، لكن ليس لديهم في قاموسهم من تراث الحكي ما يصنع هذا الحلم الجميل، فهل تستطيع كلمات وأحاجي الديكتاتورية التي كانت تخيف المصريين، قبل اليوم، أن تكون المادة ذاتها لقاموس جديد عن الحرية، قادر على صناعة وهم الحرية؟ حتى هذا اليوم لديَّ شك كبير.
مأمون فندي - الشرق الأوسط 8 مايو 2011
0 تعليقات::
إرسال تعليق