مكانة الفينومينولوجيا كمنهج بحث وفلسفة صارمة:
تشغل الظاهراتية أو الفينومينولوجيا[1] La phénoménologie حيزًا مهمًا في الفلسفة المعاصرة من حيث أنها منهج بحث، فهي ليست فكرًا مدرسيًا scolastique كما كان سائدًا في أوروبا فترة العصور الوسطى، كما أنها ليست كالفلسفات الحديثة (الوضعية المنطقية Positivisme logique والماركسية مثلاً) فلم تقدم على ما يبدو هذه الفلسفات إلا فكرًا مدرسيًا. وأكثر ما يميز الفلسفة المدرسية هو وجود مبادئ عامة تحدد آراء المنتمين لهذه الفلسفة حيث أنَّ أي تراجع عن أي مبدأ من هذه المبادئ يعتبر تنازلاً عن العقيدة الأساسية. أما الظاهراتية فهي تشكل تيارًا فلسفيًا قام بقطيعة إبستمولوجية عن الفكر السائد في القرن التاسع عشر، أضف إلى ذلك أنَّ الظاهراتية، باعتبارها منهجًا لوصف ما هو معطى، تبتعد عن عمل أي تقييم محاولة الوصول بذلك إلى أكبر قدر ممكن من الموضوعية.
وتُعتبر الظاهراتية إحدى الأفكار الأساسية في فلسفة القرن العشرين. وما يجمع بين المفكرين الداعين لها لجوؤهم إلى المسعى الفكري نفسه أكثر مما تجمعهم وحدة المعتقد. والواقع أن الظاهراتيين يرمون إلى معالجة المشكلات الفلسفية من خلال وصف كبار أنواع مشكلات التجارب الإنسانية Expériences humaines. والفكرة الأساس التي تقوم عليها الظاهراتية هي أن لكل تجربة من تجاربنا شكلاً خاصًا تقتضيه طبيعة الشيء الذي هي بصدد تناوله، بحيث يكون في وسعي، وأنا أحلل بنية تجربة معينة، الوصول إلى خطاب Discours قابل لأن يجيب على التساؤلات المطروحة حول الشيء المذكور[2].
وينبغي أن نبرز سمتين أساسيتين من سمات الفينومينولوجيا. فهي منهج في المحل الأول، وهو منهج ينحصر في وصف الظاهرة، أي ما هو معطى مباشرة. ومن هذه الجهة، فإن الفينومينولوجيا، باعتبارها منهجًا، تغض النظر عن العلوم الطبيعية، أي لا تنتبه إلى نتائجها، وبالتالي فإنها تتعارض مع المذهب التجريبي. كذلك، فإنها تصرف النظر عن تقديم نظرية في المعرفة كخطوة أولى في الموقف الفلسفي، وهي بهذا تتعارض مع المثالية. ونرى من هذا كله أن الفينومينولوجيا، باعتبارها منهجًا، تبتعد ابتعادًا حاسمًا عن الاتجاهات التي كانت سائدة خلال القرن التاسع عشر.
ومن جهة أخرى فإن موضوع الفينومينولوجيا هو الماهية Essence، أي المضمون العقلي المثالي للظواهر، الذي يدرك في إدراك مباشر، هو رؤية الماهيات. ومن وجهة النظر هذه، فإن الفلسفة الفينومينولوجية تقف على تعارض مع فلسفة القرن التاسع عشر الميلادي في الغرب مرة أخرى، وهي الفلسفة التي لم تكن تعترف بوجود ماهيات ولا بإمكان معرفتها[3]، وهذه الأخيرة عبَّر عنها كانط في موقفه من "الشيء في ذاته" la chose en soi أو "النومين" على أنه موجود ولكن لا يمكن معرفته inconnaissable. وسنعرج على هذه النقطة الأخيرة بالتفصيل في مشكلة الماهية.
نظرية المعرفة Épistémologie وموضوعها:
تعتني نظرية المعرفة (الإبستمولوجيا) بالأجابة على أسئلة من قبيل: كيف نعرف؟ ما قيمة المعارف التي نحصل عليها؟ وما هي حدودها؟
ما يهم في نظرية المعرفة هو تحديد معنى ومصادر معارفنا، وتبدأ المشكلة بالتحديد في هل المعرفة ممكنة؟ فمثلاً نعرف أنَّ باريس هي عاصمة فرنسا، وأنَّ الاحتواء هو علاقة بين عنصر ومجموعة، وأنَّ المادة يمكن تحويلها إلى طاقة وبالعكس، وأنَّ مجموع زوايا المثلث القائم هو 180 درجة. على ما يبدو هنا إشكال: هل نحن على يقين certitude من أننا نعرف؟
ينقسم الفلاسفة بصدد مشكلة "إمكانية المعرفة" أو إنكارها إلى فريقين: الأول ينفي إمكانية المعرفة نهائيًا ونجده لدى الشكيون اليونان مثل نوسيفان (أستاذ أبيقور) ومينقلس ومذهب فورون (365 – 275 ق.م) وإلى جانب مذهب الشك نضيف القائلين بنسبية المعرفة. الثاني يعلن إمكانية المعرفة ويتمثل بـ: المذهب العقلي، النقدية عند كانط والكانطيين المحدثين وهُسرل، الوجدانية لدى برغسون والوجوديين. ما يهمنا الآن هو أنَّ كل مذهب من المذاهب الفلسفية قد بيَّن رأيه فيما يتعلق بمشكلات المعرفة، وما نحن بصدده هو إيضاح موقف هُسرل والفينومينولوجيا من هذه المسائل.
هُسرل... التوجه نحو التأسيس:
يُعتبر الفيلسوف الألماني ادُمند هسرل Edmund Husserl (1859 – 1938) مؤسس الفينومينولوجيا ذات التأثير الكبير على الفلسفة المعاصرة، بالأخص الوجودية، كما أنها أثرت على الفلاسفة مثل سارتر Sartre وهايدغر Heidegger وماكس شلر Max Scheler.
كان هسرل قد تتلمذ على يد الفيلسوف الألماني برنتانو Franz Brentano، كما أنه درس أيضًا مع عالم النفس الألماني كارل اشتمف (1848 – 1936). بدأ هوسرل كفيلسوف رياضي ومنطقي فكتب بحوث في علم الرياضيات وكان مؤلفه الأول، 1891، بعنوان فلسفة علم الحساب La Philosophie de l’arithmétique، كما نشر بعد ذلك بين عامي 1900 – 1901 كتابه بحوث منطقية les Recherches logiques وهو كتاب يتحدث عن أسس المنطق.
وينقسم هذا الكتاب الضخم إلى جزءين: الجزء الأول منهما، المعنون تمهيدات للمنطق الخالص، يحتوي على نقد للاتجاه النفسي وللاتجاه النسبي من وجهة نظر عقلية وموضوعية، بينما يقوم الجزء الثاني بتطبيق المبادئ التي احتواها الجزء الأول على بعض المشكلات المعينة في فلسفة المنطق. وفي عام 1913 م نشر هسرل كتابه أفكار حول الفينومينولوجيا الخالصة حيث تتحول الفينومينولوجيا إلى "فلسفة أولى" ويكون موضوعها هو المعرفة بوجه عام، ويحتوي الكتاب على نتائج ذات طابع مثالي. وتتطور هذه النتائج المثالية على نحو شامل في الكتابين التاليين لهسرل: المنطق الصوري والمنطق الترانسندنتالي – ظهر عام 1929 م، والتجربة والحكم – ظهر عام 1939 م[4].
ما يصبو إليه هسرل هو أن يجعل من الفلسفة علمًا دقيقًا من خلال تحديد كيفية لذلك حتى تصبح الفلسفة كالرياضيات مثلاً. وفي سبيل هذا يريد أن يبدأ من المباشر immédiat، لكن المباشر في نظره ليس العالم المحسوس كما يذهب إلى هذا التجريبيون والحسيون، لأن التجربة الحسية لا يمكن أن تعطينا اليقين الذي يستبعد إمكان الشك في وجود العالم المحسوس، كما بيَّن لنا الشكيون اليونان. وكل موضوع معطى لنا على أنه شعور واقعي أو ممكن للأنا المفكِّر. ولهذا فإن العالم المحيط بي ليس إلا ظاهرة، وليس عالمًا موجودًا بيقين. والأمر المباشر الحقيقي هو الماهيات Wesenheiten essences، أي الأمور المعقولة بوصفها معطاة في الفكر. وهذه الماهيات هي أولاً ماهيات عامة: ماهية الإدراك، ماهية التصور، ماهية العدد، ماهية الحقيقة، ثم القواعد التي تحدد علائقها، مثل قواعد البرهان؛ وهي ثانيًا الأمور المادية مثل: ماهية الصوت، ماهية اللون، والعلاقة بينها وبين غيرها من الأمور المادية مثل العلاقة بين الضوء والامتداد[5]. من جانب آخر يرى هسرل أن المنطق ليس علمًا معياريًا وإن كان أساسًا لمذهب معياري شأنه في هذا شأن كل العلوم النظرية. فالواقع في رأي هسرل أن المنطق لا يقول شيئًا عما ينبغي أن يكون أو عن الواجب، إنما هو يتحدث عن الوجود. ولنأخذ مثلاً قانون عدم التناقض فإنه لا يقول إنه لا يمكن إطلاق قضيتين متناقضتين، وإنما يقول وحسب أن الشيء الواحد لا يمكن له أن يتسم بصفات متناقضة[6].
بعد هذه المقدمة العامة للفلسفة الفينومينولوجية ومؤسسها سنذهب إلى بعض التفصيلات.
مفهوم "الظاهرة" le phenomena:
تعني كلمة ظاهرة phénomène ما يظهر apparaître، أي ما يتبدى أمام الوعي ce qui apparaît à la conscience. إن نقطة البدء في المذهب الظاهراتي تتحدد من خلال القبول بوجود معطيات حسية، وهو يحاول تجنب أي شك قد تثيره حين تقف بيننا وبين الإدراك المباشر للعالم، ولذلك أراد هسرل أن يبدأ من المباشر أي من ما هو معطى donné حيث "شيء" تقابل "معطى" في الظاهراتية، والمباشر immédiat هنا أيضًا، كما أشرنا سابقًا، ليس ما هو محسوس – كما يرى الحسيون والتجريبيون – بل ما هو معطى، أي المعطيات الحسية للظاهرة المتبدية أمامنا. وللتوضيح أكثر: عندما تجمع كل المعطيات الحسية المتصلة بالآيس كريم: تلوينها – تماسكها – نكهتها – رائحتها – تلوينها – درجة حرارتها... إلخ فإنك في حقيقة الأمر قد قلت كل ما يمكن أن يقال عنها. لا تحتاج إضافة القول "وكل هذه المعطيات الحسية تطابق شيئًا ندعوه الآيس كريم لأن الشيء تمامًا كل تلك المعطيات الحسية"[7].
ويبدو أن الظواهرية تؤكد بأن إدراكنا للعالم هو إدراك لمعطيات حسية وحسب، فالحديث عن الأشياء ليس إلا حديثًا عن معطيات حسية عن هذا الشيء نفسه، وهكذا تتكون الأطروحة الظواهرية على الشكل التالي: الأشياء الطبيعية ليست سوى بُنى منطقية من المعطيات الحسية، إذًا "إن الأشياء إمكانات دائمة للإحساس" كما يقول مِل.
قد يتم توجيه انتقاد إلى المقول السابق "إن الأشياء إمكانات دائمة للإحساس" هو أن الفكرة ذاتها عن الشيء تتضمن أن وجوده ممكن من دون إدراك، وبناء على ذلك لا يصح القول إن كل حديث عن أشياء مستقلة عن الحس يمكن اختزاله إلى حديث عن خبرة معتمدة على الحس. ويجيب المفكرون الظواهريون على هذا الاعتراض بأن الأشياء، في رأيهم، يمكن أن توجد غير مدرَكة، وكل الذي يؤكدونه هو جملة فرضية، وهي أنك إذا قلت "س" موجودة فكأنك قلت إن المعطيات الحسية المناسبة، في ظل الظروف الصحيحة، سوف تحصل. وفي رأيهم فكرة الشيء الذي لا ينتج معطيات حسية أبدًا هي فكرة بلا معنى[8].
وبهذا نلاحظ أنَّ الفينومينولوجيا هي أطروحة منطقية حول ما معنى وجود الشيء، فهي تختلف عن المذهب المثالي، وإن كان هناك صلة بينهما، فالأخير يفترض وجود الأشياء أي يتوقف وجود الأشياء على إدراكها كمثالية الأسقف بركلي Berkeley (1685 – 1753) الذي يقول: "أن يُوجد يعني أن يُدرَك"، أما الفينومينولوجيا فتؤكد أننا حين نقول إن الشيء موجود هو قول بأنه موجود وكفى لا بإنه يوجد إذا أُدرك. إن الفينومينولوجيا لدى هسرل تُعد نظرية في الأنطولوجية لأنها تعالج الوجود بعيدًا عن أي تحديد أو تعيين مسبق فهي تتوجه إلى الشيء ذاته وهذا الأخير هو موضوع الأنطولوجية.
منهج البحث في مذهب الظواهر:
مذهب الظاهريات الذي وضعه هُسرل يبدأ من نقد الرياضيات ليتوصل من ذلك إلى اكتشاف طريقة تمكن من تحصيل الحقائق الأساسية، والقاعدة الأساسية لذلك هي (الذهاب إلى الأشياء ذاتها) مستبعدين كل النظريات السابقة المتعلقة بالواقع. ويقوم هذا العمل على مبدأين: مبدأ سلبي هو الابوخه، أي الوضع بين أقواس لكل ما لم يبرهن عليه بطريقة يقينية، ومبدأ ايجابي يقوم بالإهابة بالعيان للأشياء أي للظواهر لأنها هي الأمور المعطاة لنا حقًا، وميدان العيان الظاهراتي يتألف إذن من كل الظواهر المعطاة للشعور، ومهمة الظاهريات هي الكشف عن، ووصف، عالم الظواهر بكل دقة وما بينهما من روابط[9].
قلنا في أن الأمر المباشر الحقيقي هو الماهيات أي الأمور المعقولة بوصفها معطاة في الفكر، لكن هذه الماهيات essences ليست هي الموجودات بل هي تركيبات للدلالة والمعنى، يتألف منها الحقيقة المعقولة لمعطيات التجربة. وأهم هذه المناهج منهج التغيرات التخيلية، ومفاده أنه للوصول إلى معرفة ماهية موضوع علينا أن نخضع هذا الموضوع لتغيرات عديدة نتخيلها، بحيث نستطيع أن نحدد العناصر المهمة التي يجب أن يكشف عنها الموضوع ليظل كما هو هو. وعلينا أن نكشف الأحوال النموذجية للوجود المعطى أو ظهور الموضوع: الموضوع كما يُدرَك، الموضوع كما يتخيَّل، الموضوع كما يراد، الموضوع كما يُحكم عليه. ويقوم الفينومينولوجي باستخلاص ماهية الموضوعات بحسب مناطقها الوجودية حتى ينتهي إلى تصنيف مناطق أنطولوجية مادية أو صورية: فمنطقة الطبيعة تدرس الماهيات المشتركة لكل الماهيات التي تحدد حال الظهور المتجلي في الطبيعة (الشيء، الحي، المتحرك،... إلخ)، ومنطقة الشعور conscience تضم كل الماهيات التي تشترك في كونها نشاطًا واعيًا (التفكير، الاحساس، التخيل، الإدراك،... إلخ) وتحدد ما يميز كل شعور بما هو كذلك. ولا يقتصر اهتمام الفينومينولوجي على البحث في الماهيات التي لها مناظر متحقق بالفعل، بل يمتد إلى البحث أيضًا في الماهيات التي ليس لها مُناظرًا عينيًّا، مثل الموضوع بوجه عام l’objet-en-général أو أي موضوع كان tout-objet-quelconque.
وفي هذا البحث عن الماهيات نحن نصرف النظر عن الوجود الفعلي: فمثلاً العنقاء نحن نحدد ماهيتها، سواء وجدت أو لم توجد أبدًا، ومن هنا يقول الفينومينولوجيون بما يسمى بـ "وضع الوجود بين أقواس" أي بغض النظر عن وجود الماهيات، والبحث فيها كذلك بما هي كذلك، ذلك أن الوجود مستقل عن الماهية، وكما أثبت كنتْ الوجود ليس محمولاً Prédicat ذلك أن الوجود لا يسهم في تكوين الماهية. ومنهج الوضع بين أقواس له أربع لحظات:
1. وضع "التاريخ" بين أقواس ويقصد غض النظر عن كل ما تلقيناه من نظريات.
2. وضع "الوجود" بين أقواس أي البحث في الماهيات بغض النظر عن وجودها والامتناع – مؤقتًا – عن أحكام وجود المتعلقة بالماهيات حتى لو كان الوجود بينًا جدًا مثل وجود الأنا.
3. الرد (أو: الاختزال) الصوري، ويقوم على التمييز بين الواقعة والماهية. وفيه نرد الوقائع الجزئية أو الفردية إلى الماهية الكلية. فمثلاً نرد مختلف أفراد الإنسانية إلى ماهية الإنسان.
4. الرد (أو: الإختزال) المتعالي، ويقوم على التمييز بين الواقعي Reales وبين اللاواقعي Irreales، وفيه نرد المعطيات في الشعور الساذج إلى ظواهر متعالية في الشعور المحض.
لكن ليس المقصود الوضع بين أقواس ما يقصده ديكارت من الشك المنهجي، وإنما المقصود هو الابوخية، أي تعليق الحكم، أي وقف التعليق بالأحكام الشائعة ابتغاء تمكيني من أن أصبح مشاهدًا محايدًا لذاتي وسائر الأشياء. إن هُسرل يسعى إلى الوصول إلى المنطقة المطلقة للأنا المحض أو للشعور المحض، وهذه المنطقة لا تحتاج إلى ما هو واقعي ولا ينبغي ألا يخلط بينها وبين الأنا التجريبي المعطى في الإدراك الباطن[10].
القصدية l’intentionnalité:
تستند فكرة القصدية في الفكر الهُسرلي (نسبة إلى هُسرل) إلى الدعوى التالية: "كل فكر هو فكر في شيء" أي أنه يقصد وبصيغة أدق: الوعي هو وعي بشيء ما La conscience est conscience de quelque chose ولا يوجد وعي بالفراغ، فالوعي إذًا دائمًا يعي شيئًا، فأنا أعي الطاولة والقلم والشارع والناس التي تمشي إلخ وكل هذه الأمور موضوعات للوعي.
استطاعت الفينومينولوجيا والوجوديون من بعد ذلك تجاوز مشكلة الذات العارفة والموضوع التي شغلت بال الفلاسفة، أو لنقل مشكلة هذه الثنائية التي تتغلغل في مجمل الإنتاج المعرفي الأوروبي، ففي العصور الوسطى مثلاً كانت هذه الثنائية مسيطرة بشكل كبير، فالكنيسة تؤسس موقفًا تفصل فيه بين النور/الظلام، الخير/الشر، الكفر/الإيمان،... إلخ، أي يتم جعل الصواب في جانب والخطأ في الجانب الآخر، وجاءت الحداثة بعد ذلك كردة فعل على الثنائية هذه، ولكنها لم تستبدل هذه الثانية الدوغمائية إلا بثنائية أخرى فوضعت: العقل/الحواس، الكلي/العيني، الذات/الموضوع،... إلخ. الماركسية مثلاً أكثر تمثيلاً لهذا المنطلق الدوغمائي حيث يتأسس انفصال تام للذات العارفة عن الموضوع (العالم الخارجي) غير أنَّ فكرة القصدية لدى هُسرل – يتفق معه الوجوديون أيضًا – تؤكد أنَّه من المستحيل الفصل بين موضوعات الوعي والوعي بالموضوعات، وبهذا استطاعت الفينومينولوجيا تجاوز هذه الثنائية "الذات/الموضوع" التي لم تسلم منها حتى فلسفة الحداثة.
الوجوديون مثلاً يؤكدون أنه لا يوجد "ذات عارفة" بل يوجد "ذات فاعلة للمعرفة" وبهذا تجاوز آخر للفلسفة الأوروبية في القرن التاسع عشر وبالأخص للعقلانية الديكارتية وللكوجيتو الديكارتي Le cogito "أنا أفكر إذًا أنا موجود" je pense donc je suis، وأيضًا اختلاف مميز عن المذهب المثالي الذي ينطلق من التسليم بوجود ذات عارفة. والملاحظ أخيرًا في "فكرة القصدية" هنا أن الأشياء تقع تحت إدراكنا دائمًا وما لم يقع تحت إدراكنا غير موجود بالنسبة لنا.
عندما أنظر إلى الأغصان الموجودة في الحديقة من خلال النافذة المُطلة أستطيع أن أصف الشجرة وثمارها ولونها، ولكن في حال كانت النافذة مغلقة يصبح لا يوجد وعي لما هو موجود في الخارج. ولكن هل يتوقف وجود ما هو في الخارج على وعيي بها؟ حسب هسرل تبقى موجودة في ذاتها ولكنها في الوقت نفسه غير موجودة بالنسبة لنا. وهنا بالتحديد تظهر قضية التعالي Transcendance حيث أنه شيء متعالي غير معروف بعد بالنسبة للوعي. ولهذا ينتهي هسرل إلى نوع من المثالية المتعالية التي قال بها كانط، ما دام قد انتهى إلى القول بالشعور المحض غير المحتاج إلى ما هو واقعي، وقد سُميت فينومينولوجيا متعالية La phénoménologie transcendantale أو الأنطولوجيا المتعالية الظواهرية.
مشكلة الماهية:
يعتبر هُسرل أن الظاهرة هي التجلي الكامل للماهية[11] le phénomène est la manifestation parfaite de l’essence، إذ أنه يؤكد على إمكانية معرفة الماهيات أو الأشياء في ذاتها، وبهذا يختلف عن كانط kant (1734 – 1804) في مسألة الماهية. كانت حجة كانط هي أننا من المستحيل أن نعرف ماهية شيء ما لأننا نعتمد على الحدس الحسي في معرفتنا للعالم، بالمقابل لم ينفي كانط وجود النومين Noumenon أو "الشيء في ذاته" la chose en soi، بمعنى آخر "معرفة الحقيقة كما هي موجودة في ذاتها". وبكلام أدق: يقسم كانط الموجودات إلى النوعين: 1 – ظواهر، 2 – أشياء في ذاتها. وحسب كانط يقتصر إدراكنا على الظواهر فقط أما الشيء في ذاته فهو غير ممكن معرفته inconnaissable.
أما بالنسبة لسارتر Sartre J.P، وهو أحد رواد الفكر الوجودي وأحد مطورين الفينومينولوجيا إلى جانب هايدغر Heidegger، يرى أن الكائن الوحيد الذي يستطيع أن يملك الماهية هو الإنسان بمقولة له: "الوجود سابق على الماهية"، ويفرق بين نوعين من الماهية: الماهية الإنسانية وهي مجموعة الخصائص التي تميز الإنسان عن باقي الكائنات الحية، الماهية الفردية وهي الخصائص والصفات التي تميز كل فرد عن باقي الأفراد والتي يقوم هذا الفرد نفسه بصناعة ماهيته من خلال الإمكانات الحرة فيختار ما يراه مناسبًا له.
يرفض سارتر مفهوم "الشيء في ذاته" الكانطي ومفهوم "الوجود بالقوة" الأرسطي، ولا يكاد سارتر يفرق بين المفهومين فكل ما يوجد يوجد على هيئة ما هو عليه بالفعل، ويبقى الوجود هو ظاهرة من بين الظواهر تدعى ظاهرة الوجود، ويبدو هذا الوجود معتمدًا على ذاته في الوجود إذ أنه معتم لا داخل له.
وخلاصة القول: لقد استطاعت الظاهراتية فيما قدمته من منهج بحث دقيق ونظرية في الفينومينولوجيا تجاوز التيارين العريضين الذين سيطرا على الفلسفة الأوروبية، وهما: الذاتي subjectivisme والموضوعي objectivisme، ونجحت في عمل قطيعة معرفية مع القرن التاسع عشر والحداثة وكأنها تؤسس لـ ما بعد الحداثة.
*** *** ***
[1] وقد يطلق عليها "فلسفة الماهية" على اعتبار أن لكل علم موضوع كمادة للدراسة والتحليل، ومن هنا الفينومينولوجيا موضوعها الماهيات.
[2] الظاهراتية، فيليب هونيمان، إستيل كوليش، ترجمة: حسن طالب، ص 108.
[3] الفلسفة المعاصرة في أوربَا، إ.م. بوشنسكي، ترجمة: د. عزَّت القرني، عالم المعرفة، عدد 165، صفحة 220.
[4] المرجع السابق، ص 224.
[5] مدخل جديد إلى الفلسفة، عبد الرحمن بدوي، الطبعة الأولى، 1975، ص 132 – 133.
[6] الفلسفة المعاصرة في أوربَا، مرجع سابق، ص 226.
[7] الفلسفة موضوعات مفتاحية، جوليان باجيني، ترجمة: أديب يوسف شيش، الكتاب الشهري عدد 36، ص 72.
[8] المرجع السابق، ص 73.
[9] مدخل جديد إلى الفلسفة، مرجع سابق، ص 12.
[10] المرجع السابق، ص 135.
[11] Edmund Husserl La crise de l’humanité européenne et la philosophie، Introduction, commentaire et traduction par Nathalie Depraz، Collection dirigée par Laurence Hansen-Løve، P : 97.
فراس سراقبي - الأوان، السبت 14 تشرين الثاني (نوفمبر) 2009
0 تعليقات::
إرسال تعليق