إما أن الذاكرة تخونهم أو أنهم يتقصدون التعتيم على حقائق التاريخ.. فالذين يصرون على أن حزب الله هو الوحيد الذي أخرج الإسرائيليين من أرض عربية يحتلونها، يتعمدون إسدال ستار سميك على ما جرى خلال حرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973 البطولية فعلا، وقبل ذلك بخمس سنوات على ما جرى في معركة الكرامة التي كانت أول مواجهة عسكرية مع القوات الإسرائيلية، بعد حرب يونيو (حزيران) عام 1967 التي كانت نتائجها نكبة لا يزال العرب يعانون انعكاساتها، على الرغم من مرور أكثر من أربعين سنة. ولا يمكن إنكار أن حزب الله، الذي ورث مقاومة يسارية وقومية لبنانية ثم احتكرها لنفسه ولطائفة في حد ذاتها بقوة السلاح، قد حقق إنجازا وطنيا وقوميا مميزا بإجبار الإسرائيليين على الانسحاب من الجنوب اللبناني في عام 2000 بعد احتلال متواصل دام 18 عاما، لكن وفي الوقت ذاته، لا يجوز إنكار أن عربا آخرين قد قاتلوا بشجاعة، وأنهم حققوا إنجازات وطنية وقومية رائعة وحقيقية، وأجبروا الإسرائيليين على الانسحاب من أراض عربية بقوة السلاح.
في عام 1968 كان ظلام هزيمة يونيو لا يزال يخيم على الوطن العربي كله من أقصاه إلى أقصاه، وكان طعم الانكسار لا يزال في الأفواه، وكانت الجيوش لا تزال لم تستعد ثقتها بنفسها بعد تلك الهزيمة النكراء، حيث إنه بالإضافة إلى استكمال احتلال فلسطين كلها من البحر إلى النهر، كما يقال، وضمن هذا قطاع غزة الذي كان تحت سيطرة الإدارة العسكرية المصرية، احتل الإسرائيليون سيناء كلها حتى قناة السويس وهضبة الجولان من بحيرة طبرية وحتى مشارف دمشق، بالإضافة إلى قمة جبل الشيخ الاستراتيجية المهمة وسفوحه الغربية.
في أبريل (نيسان) 1968، تحركت القطاعات العسكرية الإسرائيلية في محاولة لاستثمار الانتصار الذي حققته إسرائيل في هذه الحرب، أي حرب يونيو عام 1967، واستثمار الهزيمة النكراء التي لحقت بالعرب كلهم الذين قاتلوا والذين لم يقاتلوا، وعبرت نهر الأردن من الغرب إلى الشرق في منطقة الشونة الجنوبية الأردنية بحجة القضاء على نواة المقاومة الفلسطينية التي كانت تتمركز في بلدة الكرامة، التي غدا اسمها ذائع الصيت بعد ذلك، مع أن هذه القطاعات في حقيقة الأمر كانت تستهدف سلسلة التلال الواقعة إلى الغرب من مدينة السلط التي لا تبعد عن عمان إلا بنحو 25 كيلومترا والمطلة، أي هذه التلال، على غور الأردن في المنطقة الاستراتيجية التي تحاذي مدينة أريحا من الجهة الشرقية، التي لا تبعد عن مدينة القدس إلا بنحو 30 كيلومترا فقط.
كان الإسرائيليون، الذين يعيشون ذروة نشوتهم بالانتصارات التي حققوها في يونيو 1967، يعتقدون أن رحلتهم العسكرية ستكون سهلة وبلا أي منغصات، وكان هدفهم سحق نواة المقاومة، واحتلال تلال السلط الغربية، المطلة على غور الأردن، التي غدت تعتبر قلعة الدفاع الأمامية عن العاصمة الأردنية عمان، للضغط على الأردن بالقوة العسكرية المباشرة وإجباره على توقيع اتفاقية إذعان يعترف فيها لإسرائيل باحتلالها الضفة الغربية التي كانت، وعلى الرغم من الاحتلال، لا تزال تعتبر جزءا من المملكة الأردنية الهاشمية.
لكن ثبت أن حسابات الإسرائيليين لم تكن دقيقة وكانت مفاجأتهم أن الجيش الأردني كان على علم مسبق بنياتهم وأنه بدأ هجوما مضادا كان قد استعد له بمجرد عبور قطاعات الجيش الإسرائيلي نهر الأردن من الغرب إلى الشرق.
وبشهادة الوثائق الإسرائيلية وبما جاء في مذكرات بعض كبار جنرالات إسرائيل فإن معارك ذلك اليوم التي تواصلت منذ الفجر المتقدم وحتى غروب الشمس كانت أقسى ما خاضه جيشهم من معارك، منذ تأسيسه وحتى تلك اللحظة، وأن ما أذهلهم هو أن القوات الأردنية المسلحة أثبتت أنها استعادت ثقتها بنفسها في أقل مما كان متوقعا من الزمن، وأنها قاتلت بحرفية عالية وببسالة منقطعة النظير ونادرة.
كانت القوات الإسرائيلية قد خططت لبقاء طويل في التلال التي تطل على غور الأردن من الجهة الشرقية، وكان الهدف الرئيسي يستند إلى أن إسرائيل كانت تعتقد أنها قادرة، من خلال مواصلة الضغط على عنق العاصمة الأردنية عمان، على إلزام الأردنيين بتوقيع اتفاقية إذعان معها، لكن هذا لم يحصل، فالجيش الأردني، بمساهمة لا تنكر من قبل نواة المقاومة الفلسطينية، قاتل ببسالة وأجبر القوات الغازية على الانسحاب في هيئة هزيمة موجعة، وكان ذلك أول انسحاب إسرائيلي من أراض عربية محتلة بعد الانسحاب من قناة السويس في عام 1959، الذي جاء في إطار العدوان الثلاثي الشهير على مصر.
بعد ذلك جاءت حرب أكتوبر عام 1973، المجيدة فعلا، كأخطر وأهم صدام عسكري عربي - إسرائيلي على مدى تاريخ هذا الصراع، فالمقاتلون سواء على جبهة قناة السويس الغربية أو على جبهة هضبة الجولان السورية الشرقية، قد حققوا إنجازات عظيمة، وأثبتوا أن هزيمة يونيو كانت لحظة مريضة وعابرة، وأنه وإن كانت تلك الهزيمة بمثابة «كبوة» طارئة فإن انتصارات أكتوبر قد جاءت بمثابة نهوض مؤكد، وحقيقة أن اجتياح خط بارليف وقهره والتوغل السريع في عمق سيناء قد أثبتا أن المقاتلين العرب قادرون على استعادة أمجاد الأجداد الذين قهروا أهم إمبراطوريتين في ذلك التاريخ المبكر، الذين وصلت طلائع فتوحاتهم إلى بواتييه (بلاط الشهداء) على بعد مرمى حجر من باريس.
لقد كانت حرب أكتوبر ملحمة بطولات حقيقية، ولقد جاء الانسحاب الإسرائيلي من سيناء والجولان - وإن كان بعد مفاوضات شاقة - بمثابة نصر مؤزر للعرب، فالحرب كما هو معروف هي التي تحدد الأطر السياسية اللاحقة التي توصل إلى حل القضايا التي تسببت في هذه الحرب، بعضها أو كلها. فالسياسة، كما قال المحلل العسكري الشهير كلاوزو فيتش، هي استمرار للحرب ولكن بوسيلة أخرى، وهذا ما حصل فعلا، حيث كانت المفاوضات المصرية - الإسرائيلية حربا حقيقية ولكن بالوسائل السياسية، وقد تواصلت إلى أن استعادت مصر كل ذرة من أرضها المحتلة حتى بما في ذلك فندق طابا الذي استغرقت مفاوضات استعادته سنوات طويلة. ولذلك فإنه تجن على حقائق التاريخ وتنكر لدماء الشهداء عند القول إن مقاومة حزب الله حققت أول إجبار للإسرائيليين وبقوة السلاح على الانسحاب من أرض عربية محتلة، وذلك مع التقدير والاحترام لكل التضحيات التي قدمها هذا الحزب، ولكل ما قامت به مقاومته لتحرير الجنوب اللبناني وإنهاء احتلال إسرائيل له.
وهنا فإنه لا بد من الإشارة إلى أن الذين حققوا إنجازات الكرامة وسيناء والجولان لم يرتدوا نحو داخل بلدانهم ليصيغوا معادلات سياسية وفقا لمقاساتهم، كما يفعل حسن نصر الله في لبنان باسم المقاومة، التي من المفترض ألا تكون من المهد إلى اللحد، على غرار مجالس قيادات الثورة في أنظمة الانقلابات العسكرية العربية، يحاول الآن حتى بعد أكثر من عشرة أعوام من رحيل الإسرائيليين فرض نفسه وحزبه وامتداداته الإقليمية على المعادلة السياسية اللبنانية التي تعتبر كما هو معروف معادلة طائفية لا يجوز مسها أو الاقتراب منها.
صالح القلاب - الشرق الأوسط - 11 نوفمبر 2010
في عام 1968 كان ظلام هزيمة يونيو لا يزال يخيم على الوطن العربي كله من أقصاه إلى أقصاه، وكان طعم الانكسار لا يزال في الأفواه، وكانت الجيوش لا تزال لم تستعد ثقتها بنفسها بعد تلك الهزيمة النكراء، حيث إنه بالإضافة إلى استكمال احتلال فلسطين كلها من البحر إلى النهر، كما يقال، وضمن هذا قطاع غزة الذي كان تحت سيطرة الإدارة العسكرية المصرية، احتل الإسرائيليون سيناء كلها حتى قناة السويس وهضبة الجولان من بحيرة طبرية وحتى مشارف دمشق، بالإضافة إلى قمة جبل الشيخ الاستراتيجية المهمة وسفوحه الغربية.
في أبريل (نيسان) 1968، تحركت القطاعات العسكرية الإسرائيلية في محاولة لاستثمار الانتصار الذي حققته إسرائيل في هذه الحرب، أي حرب يونيو عام 1967، واستثمار الهزيمة النكراء التي لحقت بالعرب كلهم الذين قاتلوا والذين لم يقاتلوا، وعبرت نهر الأردن من الغرب إلى الشرق في منطقة الشونة الجنوبية الأردنية بحجة القضاء على نواة المقاومة الفلسطينية التي كانت تتمركز في بلدة الكرامة، التي غدا اسمها ذائع الصيت بعد ذلك، مع أن هذه القطاعات في حقيقة الأمر كانت تستهدف سلسلة التلال الواقعة إلى الغرب من مدينة السلط التي لا تبعد عن عمان إلا بنحو 25 كيلومترا والمطلة، أي هذه التلال، على غور الأردن في المنطقة الاستراتيجية التي تحاذي مدينة أريحا من الجهة الشرقية، التي لا تبعد عن مدينة القدس إلا بنحو 30 كيلومترا فقط.
كان الإسرائيليون، الذين يعيشون ذروة نشوتهم بالانتصارات التي حققوها في يونيو 1967، يعتقدون أن رحلتهم العسكرية ستكون سهلة وبلا أي منغصات، وكان هدفهم سحق نواة المقاومة، واحتلال تلال السلط الغربية، المطلة على غور الأردن، التي غدت تعتبر قلعة الدفاع الأمامية عن العاصمة الأردنية عمان، للضغط على الأردن بالقوة العسكرية المباشرة وإجباره على توقيع اتفاقية إذعان يعترف فيها لإسرائيل باحتلالها الضفة الغربية التي كانت، وعلى الرغم من الاحتلال، لا تزال تعتبر جزءا من المملكة الأردنية الهاشمية.
لكن ثبت أن حسابات الإسرائيليين لم تكن دقيقة وكانت مفاجأتهم أن الجيش الأردني كان على علم مسبق بنياتهم وأنه بدأ هجوما مضادا كان قد استعد له بمجرد عبور قطاعات الجيش الإسرائيلي نهر الأردن من الغرب إلى الشرق.
وبشهادة الوثائق الإسرائيلية وبما جاء في مذكرات بعض كبار جنرالات إسرائيل فإن معارك ذلك اليوم التي تواصلت منذ الفجر المتقدم وحتى غروب الشمس كانت أقسى ما خاضه جيشهم من معارك، منذ تأسيسه وحتى تلك اللحظة، وأن ما أذهلهم هو أن القوات الأردنية المسلحة أثبتت أنها استعادت ثقتها بنفسها في أقل مما كان متوقعا من الزمن، وأنها قاتلت بحرفية عالية وببسالة منقطعة النظير ونادرة.
كانت القوات الإسرائيلية قد خططت لبقاء طويل في التلال التي تطل على غور الأردن من الجهة الشرقية، وكان الهدف الرئيسي يستند إلى أن إسرائيل كانت تعتقد أنها قادرة، من خلال مواصلة الضغط على عنق العاصمة الأردنية عمان، على إلزام الأردنيين بتوقيع اتفاقية إذعان معها، لكن هذا لم يحصل، فالجيش الأردني، بمساهمة لا تنكر من قبل نواة المقاومة الفلسطينية، قاتل ببسالة وأجبر القوات الغازية على الانسحاب في هيئة هزيمة موجعة، وكان ذلك أول انسحاب إسرائيلي من أراض عربية محتلة بعد الانسحاب من قناة السويس في عام 1959، الذي جاء في إطار العدوان الثلاثي الشهير على مصر.
بعد ذلك جاءت حرب أكتوبر عام 1973، المجيدة فعلا، كأخطر وأهم صدام عسكري عربي - إسرائيلي على مدى تاريخ هذا الصراع، فالمقاتلون سواء على جبهة قناة السويس الغربية أو على جبهة هضبة الجولان السورية الشرقية، قد حققوا إنجازات عظيمة، وأثبتوا أن هزيمة يونيو كانت لحظة مريضة وعابرة، وأنه وإن كانت تلك الهزيمة بمثابة «كبوة» طارئة فإن انتصارات أكتوبر قد جاءت بمثابة نهوض مؤكد، وحقيقة أن اجتياح خط بارليف وقهره والتوغل السريع في عمق سيناء قد أثبتا أن المقاتلين العرب قادرون على استعادة أمجاد الأجداد الذين قهروا أهم إمبراطوريتين في ذلك التاريخ المبكر، الذين وصلت طلائع فتوحاتهم إلى بواتييه (بلاط الشهداء) على بعد مرمى حجر من باريس.
لقد كانت حرب أكتوبر ملحمة بطولات حقيقية، ولقد جاء الانسحاب الإسرائيلي من سيناء والجولان - وإن كان بعد مفاوضات شاقة - بمثابة نصر مؤزر للعرب، فالحرب كما هو معروف هي التي تحدد الأطر السياسية اللاحقة التي توصل إلى حل القضايا التي تسببت في هذه الحرب، بعضها أو كلها. فالسياسة، كما قال المحلل العسكري الشهير كلاوزو فيتش، هي استمرار للحرب ولكن بوسيلة أخرى، وهذا ما حصل فعلا، حيث كانت المفاوضات المصرية - الإسرائيلية حربا حقيقية ولكن بالوسائل السياسية، وقد تواصلت إلى أن استعادت مصر كل ذرة من أرضها المحتلة حتى بما في ذلك فندق طابا الذي استغرقت مفاوضات استعادته سنوات طويلة. ولذلك فإنه تجن على حقائق التاريخ وتنكر لدماء الشهداء عند القول إن مقاومة حزب الله حققت أول إجبار للإسرائيليين وبقوة السلاح على الانسحاب من أرض عربية محتلة، وذلك مع التقدير والاحترام لكل التضحيات التي قدمها هذا الحزب، ولكل ما قامت به مقاومته لتحرير الجنوب اللبناني وإنهاء احتلال إسرائيل له.
وهنا فإنه لا بد من الإشارة إلى أن الذين حققوا إنجازات الكرامة وسيناء والجولان لم يرتدوا نحو داخل بلدانهم ليصيغوا معادلات سياسية وفقا لمقاساتهم، كما يفعل حسن نصر الله في لبنان باسم المقاومة، التي من المفترض ألا تكون من المهد إلى اللحد، على غرار مجالس قيادات الثورة في أنظمة الانقلابات العسكرية العربية، يحاول الآن حتى بعد أكثر من عشرة أعوام من رحيل الإسرائيليين فرض نفسه وحزبه وامتداداته الإقليمية على المعادلة السياسية اللبنانية التي تعتبر كما هو معروف معادلة طائفية لا يجوز مسها أو الاقتراب منها.
صالح القلاب - الشرق الأوسط - 11 نوفمبر 2010
0 تعليقات::
إرسال تعليق