الثلاثاء، 4 أكتوبر 2011

في كوبا.. عن غيفارا والثورة التي تباع «رموزها» وتشترى

يصلحون شاحنة قديمة في هافانا..
مساءً، تحط الرحلة الرقم 7322 القادمة من المكسيك في مطار خوسيه مارتي في هافانا... كوبا، وأخيراً تطأ قدماي الحلم!
في المطار الصغير موظفون كثر، يعملون كالأوركسترا. بعدما يفحص رجال الأمن وثائق السفر الفلسطينية، تتوجه نحونا امرأة أوعزت لشاب بمساعدتنا لتحويل بعض الدولارات الأميركية إلى العملة المحلية، وإيصالنا للخارج. مئتا دولار أميركي تعادل نحو مئة وستين بيزوس قابلاً للتحويل؛ هي العملة التي يتوجب على «السياح» أمثالنا استخدامها، وكل بيزوس منها يساوي أربعة وعشرين بيزوس محلياً.
في الخارج ظلام دامس... وسيارة صغيرة، «حشر» السـائق حقائبنا فيها و«يقلع» إلى قلب العاصمة. على الطريق سيارات معدودات، لولا ألوانها الزاهية لظن المرء أن الوقت عاد به لستينيات القرن المنصرم. تراها متوقفة كل بضعة كيلومترات، يبحلق في أحشائها سائق، أغلب الظن أنه يفكر في ما يمكن تغييره فيها بعد! أزقة البلدة القديـمة تملأها الحياة، حتى في ساعات الليل المتأخرة: صخب رجال يلعبون الدوميــنو وأطفال ما لبثوا يركلون الكرة بالقرب من مـنازل تكاد تنهار فــوق رؤوس ساكنيها، وعلى أبواب المنازل نساء خرجن لاستنشاق بعض من هواء هافانا الرطب.
تسبقنا أشعة الشمس صباحاً... في البلدة القديمة أعمال ترميم غير مسبوقة وعمال يهرولون لورشات البناء المترامية، وعلى الشرفات نساء ينشرن الغسيل ويثرثرن وجاراتهن. أمام الفنادق المتعددة رجال النظافة يدلقون الماء على الأرصفة ويبادلون المارة التحية، بينما يجول عناصر الشرطة السياحية في المكان ذهابا وإياباً... تكثر المتاحف والمعارض هنا، ومستودعات أسلحة الثورة، التي أطاحت نظام باتيستا عام 1959 ويبدو أنها لم تنته بعد. صور لكاسترو وغيفارا حيثما تلفت، وإعلانات تمجد الثورة في كل حدب وصوب.
لا إنترنت لتحميل صور الصباح هنا... لا بد أن تشتري بطاقات خاصة لدخول الشبكة من خلف الجدار الحكومي الإلكتروني؛ «ستة بيزوس قابلة للتحويل، حسنا». لكن، مهلاً... من يملك حاسوباً هنا ومن يستطيع دفع ربع راتبه مقابل ساعة على الشبكة العنكبوتية!؟
أخيراً، بطاقة إنترنت، حاسوب وفنجان قهوة. وللقهوة في كوبا مذاق آخر، يكاد يشبه القربان... مقدّس كالثورة! بيد أن الأخيرة لم تعد كما أراد تشي أن تكون، أزلية كموج البحر. هنا أيضا، أصبحت رموزها تباع وتشترى. وكأن التجار يتبعون النهج القائل: إن صلح أن تطبع صورته عليها؛ فبعها!
خلف أبواب خشبية وفي غرفة رطبة، يدعونا شرطي للاطلاع على أنواع السجائر الكوبي المختلفة. بيع السجائر، كغيره من موارد الدخل القومي في كوبا، حكر على الحكومة. يبيعه «صديقنا» مهربا من كوبا وإليها للقادمين المتلهفين على لفائف التبغ الأشهر في العالم.
معظم المحال في كوبا حكومية أو شبه حكومية، لا اختلاف في الواجهات ولا في البضائع القليلة المعروضة خلف نوافذها. في المطاعم فرق محلية تساعد الزبائن لهضم الزيت المضاعف على أنغام الجاز والتانغو، تجدهم في الأزقة والباحات العامة أيضا... وإن كنت مغرما بالموسيقى الكوبية، فما عليك سوى التوجه مساءً إلى كاباريه باريزيان، حيث العروض الفنية اليومية. معظم الحضور هنا من السياح القادمين من كندا، إسبانيا وفرنسا بالدرجة الأولى.
لا يتحدث معظم الكوبيين الإنكليزية، لكنهم لا يكرهونها كما يوضح لنا الدليل السياحي ونحن في الطريق إلى ترينيداد: «مشكلتنا مع الحكومة الأميركية، ليست مع الأميركيين.» يبدو ذلك واضحا، على الأقل بالنسبة لـ«جاك» كما طلب من الجميع تسميته. لسبب ما يذكرني «جاك» بنابولين الطاغية، القليل الكلام في رواية جورج أورويل، «مزرعة الحيوان»: قصير القامة، شعره أبيض، حاد النظرات، «مدجج» بالخواتم الفضية والأسوار الجلدية... لا أذكر أن أحداً منّا لمحه دون قبعة رعاة البقر الأميركيين طوال يومين، يلبس الجينز ويتحدث «الأميركية» بطلاقة!
نعرج في الطريق على سانتا كلارا، حيث آخر معركة في الثورة الكوبية في الأيام الأخيرة من عام 1958. قادها الطبيب الأرجنتيني الثائر إرنستو غيفارا الملقب بتشي، أي «الصاحب» بالعامية الأرجنتينية وهو الاسم الذي لازم غيفارا أبدا... هناك، في موقع السكة الحديدية، قطع الثوّار الطريق على قطار محمل بالعتاد والأسلحة كان في طريقه لباتسيتا الذي يقال إنه غادر كوبا بعد الواقعة بأقل من اثنتي عشرة ساعة. وفي سانتا كلارا أيضا، مدفن ومتحف غيفارا، الذي قتل في بوليفيا قبل ثلاثة وأربعين عاماً ولم تسترجع كوبا جثته وجثامين رفاقه إلا عام 1997.
يحتضن المتحف، الذي يُمنع التصوير فيه، العديد من مقتنيات الثائر القليلة. شهاداته المدرسية التي تبين عشقه للتاريخ، وكرهه، كما يبدو، للرياضيات... ومنها بعض من كتبه، رداؤه الأبيض، أدواته الطبية البسيطة، كاميراته، سلاحه وآخر صفحات مذكراته.
تتوقف الحافلة في ترينيداد حيث توقف التــقويم منــذ قرون. لهذا، ربما، أدرجت البلدة على لوائح التــراث العالمي... على الشاطئ الجنوبي من كوبا، متحـف طبيـعي لمستعمرة إسبــانية سابــقة، مزركشة بحقول السكر، يعيش سكانها الذين لا يتجاوز عددهم 80 ألف نسمة خارج الزمن في واحدة من أجمل بقاع الأرض: سانتي سبيريتوس، أي الروح القدس.
تستوقفني سيدة في خريف العمر، كآخرين غيرها في كوبا، لم تطلب الكثير: قطعة حلوى، قلم حبر، قنينة مياه فارغة... فبعد أكثر من نصف قرن على الحصار، لا بد أن كل شيء بات يلزم هنا! بيد أن في ملامح هذه السيدة شيئاً لم أره من قبل. باتت وكأنها كانت تحاول الاختباء من ظلها. تعرض علينا خمس سلاسل يدوية، مصنوعة من البذور والبقوليات. «الخمس ببيزوس واحد،» قالت بينما قبضت على يدي. وقبل أن أقنعها بما تعلمته من إسبانية وما تواصلنا به من لغة إشارة، أنني سآخذ واحدا فقط ببيزوس، تصرخ «شرطة.. شرطة» وتسارع بالاختباء خلف الناصية... لو لم أر ما تبيعه السيدة، لظننتها تتاجر بالمخدرات! لاحقاً، ذكر لي أحدهم أن الأعمال الفردية كهذه ممنوعة، وأن الحكومة تسيطر على كل جوانب الاقتصاد الكوبي. وكعادتي لبست عمامة الدفاع: «لا ضرر... أفضل من أن يسيطر الحيتان عليه»!
في صمت سانتي سبيريتوس، ارتدّ صوتي إلي... وعاد هاجساً لم يغادرني منذ غادرت بلاد تشي: ماذا لو علم غيفارا أن صوت الثوار قد خفت، وأن العالم بثقله يرزح على أجساد الفقراء، في كوبا ربما أكثر من أي مكان آخر؟

رانيا زبانة 19/10/2010 (هافانا) السفير

1 تعليقات::

Garrett يقول...

برامج PetraNewacc برامج تخدم كل الانشطة والاعمال التجارية والصناعية والخدمية بالاضافة الى ادارة شؤون الموظفين الخاصة بهذه المؤسسات هذا يقدم لك قيادة حكيمة لاعمالك المحاسبية والادارية
https://www.petranewacc.com


برنامج حسابات محلات الملابس


برنامج محاسبة شركات


برنامج كاشير


برنامج حسابات


تحميل برنامج مخازن


برنامج مستلزمات الاسنان


برنامج الصيدليات


إرسال تعليق