السبت، 13 أغسطس 2011

كمال الصليبي: المؤرخ الفنان

كمال الصليبي أحد أبرز المؤرخين العرب وأكثرهم ألمعية ومهابة وتألقا. فقد قوض، بجدارة علمية لافتة، المسلمات العتيقة الرابضة على رؤوسنا منذ ألفي عام على الأقل، وبلبل معارفنا القديمة المستقرة في تلافيف أدمغتنا كثعابين هندية نائمة، حين صاغ نظرية متماسكة برهن فيها عن أن أحداث التوراة وقعت في جنوب شبه الجزيرة العربية لا في فلسطين. وهذه النظرية المتينة والخطيرة لم يتجرأ احد، حتى الآن، على نقضها علمياً، فاستحق أن تقوم عليه قيامة العالم القديم كله، بكهنته وشياطينه. وكل ما فعله ممثلو التخلف الفكري هؤلاء أن هاجموه بألسنتهم الشوهاء وبأقلامهم الموظفة في خدمة السلطات العربية الغبية والجاهلة، وحاولوا أن يصيبوه بسهامهم الخائبة ونبالهم المسمومة معاً. وهيهات لهم ذلك.
قليل الكلام، لكنه مثير للزوابع. وقد قيّض لثلاثة من كتبه على الأقل أن تطلق عاصفة من النقاش والسجال. وهذه الكتب هي:

1ـ «منطلق تاريخ لبنان» (1979) الذي تخطى فيه كتابه «تاريخ لبنان الحديث»، وخالف الحكاية التقليدية المتهافتة عن تاريخ لبنان الممتد ستة آلاف سنة إلى الخلف.
2ـ «التوراة جاءت من جزيرة العرب» (1985) الذي نقض فيه الرواية الدينية الشائعة عن تاريخ اليهود في فلسطين.
3ـ «البحث عن يسوع» (1999) الذي خلخل القصة الراسخة عن ولادة المسيح في بيت لحم وظهوره في الناصرة ثم في القدس. وتوصل إلى أن ثلاثة من الناس كانوا يكنون بـ«المسيح»: عيسى بن مريم، ويسوع الذي من آل داود المطالب بعرش جده، وهذا ولد في وادي جليل في منطقة الطائف وصلب في القدس، وإله العيس في الحجاز، أي إله الخصوبة (كلمة «العيس» تعني بالعربية القديمة «ماء الفحل»). وأكد أن مريم اسم خالة المسيح وليس اسم أمه. ونقل عن وهب بن منبه، جد ابن هشام صاحب «السيرة النبوية» في كتابه «التيجان في ملوك حمير»، أن قبر عيسى بن مريم كان موجوداً حتى القرنين الأولين من ظهور الإسلام على رأس جبل جمناء جنوب يثرب.

الجذور

أصل عائلته من بلدة «عين حليا» القريبة من سرغايا في الأراضي السورية. فهو، إذاً، سوري الأصل، لبناني المولد والنشأة، وعاش أجداده بين مصر والسودان، وبين الخليل في فلسطين والسلط في الأردن حين لم تكن هناك حدود في وادي النيل، أو بين دول بلاد الشام. وقرية عين حليا قذفت بعائلات شتى إلى لبنان، ومن أعلام «العناحلة» في هذا البلد فرج الله الحلو والبطريرك يوحنا الحلو والقديس شربل مخلوف والبطريرك الياس الحويك وأحمد فارس الشدياق والرئيس شارل حلو وشوقي أبي شقرا وكمال الصليبي بالطبع. وآل الصليبي في بحمدون هم في الأصل روم أرثوذكس تحولوا إلى البروتستانتية في زمن ليس بعيداً، على غرار تحول قسم من أمراء آل شهاب السُنّة القادمين من بلدة شهبا في السويداء إلى المارونية، وعلى غرار تحول أمراء آل أبي اللمع الدروز القادمين من حلب إلى المارونية أيضاً. لكن هاتين العائلتين تحولتا إلى المارونية تبعاً لمصالحهما السياسية بعد انحسار دور الدولة العثمانية وظهور دور فرنسا الكاثوليكية. أما تحول بعض الأرثوذكس إلى البروتستانتية فقد كان، على العموم، لأسباب اقتصادية.
يقول كمال الصليبي في كتابه الممتع «طائر على سنديانة»: (2002): «لا أذكر أننا كنا في أي وقت سابق نفرّق بين لبنانيين وسوريين. فقد ذهبت في إحدى المرات إلى دمشق في رفقة أهلي لزيارة أقرباء لنا هناك، فلم نقطع شيئا في طريقنا يمكن تسميته بالحدود، ولا نحن مررنا بجمارك. جل ما حصل أن ضابطاً على الطريق أوقف سيارتنا للحظة وسأل السائق: الإخوان من لبنان؟ وعندما سمع الجواب ابتسم لنا وقال: أهلين وسهلين (ص 161).

السيرة المتألقة

ولد كمال الصليبي في بيروت في 2/5/1929. والده الدكتور سليمان خليل الصليبي، كان ضابطاً في الجيش المصري، وخدم في السودان. ووالدته سلوى ابنة الطبيب إبراهيم الصليبي الذي عاش معظم حياته في مدينتي الخليل والسلط. درس في المدرسة الإنجيلية في بحمدون، ثم في مدرسة برمانا العالية، وانتقل بعد ذلك إلى ثانوية الإنترناشونال كولدج. وتابع دراسته في الجامعة الأميركية في بيروت، وفيها تتلمذ على قسطنطين زريق السوري وزين نور الدين زين الفلسطيني ونبيه أمين فارس اللبناني ـ الفلسطيني معاً. وكان أصدقاؤه الأكثر قربا إلى نفسه عرباً من العراق والشام أمثال يوسف إيبش الدمشقي ورامز شحادة اللبناني الأزرعي الأصل وأسامة الخالدي المقدسي ويوسف الشيراوي البحريني. لهذا كان من المتوقع أن يكون عروبي الهوى السياسي، وعضواً في «جمعية العروة الوثقى» في الجامعة الأميركية مثلا، لكنه انتمى، في بداياته الأولى، إلى «رابطة الطلاب اللبنانية» التي كانت قريبة من «أفكار» وأطاريح حزب الكتائب. لكنه لم يلبث أن غادرها حين تكشف له تهافتها الفكري والسياسي. وفي الجامعة درس اللغات القديمة على أنيس فريحة، ثم سافر إلى لندن لمتابعة دروسه العالية، فدرس التاريخ على برنارد لويس في جامعة لندن، مع أن علاماته في مادة التاريخ إبان المرحلة الثانوية كانت الأدنى بين علامات المواد الدراسية الأخرى. وكتب أطروحته التي اشرف عليها برنارد لويس نفسه بعنوان «المؤرخون الموارنة وتاريخ لبنان في العصور الوسطى»، ونال عليها الدكتوراه سنة 1953، ثم عاد إلى لبنان حيث عين أستاذاً للتاريخ في الجامعة الأميركية، وتدرج في المواقع الأكاديمية حتى تولى رئاسة دائرة التاريخ فيها.
كانت خياراته العلمية عجيبة: فمنذ البداية كان لديه ميل إلى البيولوجيا، ثم راح يهتم بالرياضيات وعلم الفلك، علاوة على الآداب الأوروبية. لكنه في المرحلة الثانوية شغف بالعلوم الطبيعية وقرأ كتب الطب. وكان قبل ذلك درس الموسيقى في المعهد الموسيقي الوطني على وديع صبرا، ثم تابع دروسه في الأكاديمية اللبنانية على ألكسي بطرس، وتعلم العزف وإن لم يتقنه. ومع ذلك تخصص بالعلوم السياسية، وقادته السياسة إلى التاريخ الذي تعلق به بتأثير من نبيه أمين فارس وقسطنطين زريق وأنيس فريحة وزين نور الدين زين.

خرافة فخر الدين

قال له أحمد سامح الخالدي عندما التقاه: «عندما يأتي اليوم الذي تكتب فيه في التاريخ لا تكذب كما يفعل المؤرخون اللبنانيون عادة. قل مثلا إن فخر الدين كان عاصيا على الدولة العثمانية ونال عقابه، ولا تقل إنه كان بطلاً يقاوم الظلم العثماني ليجعل من لبنان دولة مستقلة، وهو الذي ربما لم يلفظ كلمة لبنان مرة واحدة في حياته». وبالفعل قام كمال الصليبي برصد تاريخ فخر الدين واستنتج أن ليس هناك ما يسمى فخر الدين الأول، وأن فخر الدين الذي سماه بعض المؤرخين اللبنانيين فخر الدين الثاني لم يطلق على نفسه هذا الاسم، وأن تسمية فخر الدين الثاني ليست إلا أسطورة صغيرة (أنظر الحوار معه في مجلة «المستقبل العربي»، العدد 8، آب 2010). وأبعد من ذلك يقول «إن مخطط قيام لبنان ليس بريئاً، فقد كان مسيحياً فقط، وضعته مجموعة من المسيحيين، خصوصا بعض أعضاء الطوائف الكاثوليكية في دمشق (...). إن أغنياء كاثوليك خططوا لإنشاء لبنان قبل نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، وهؤلاء هم من وضع مشاريع عدة لشق الطرق بين بيروت وسوريا بهدف توسيع دائرة أعمالهم التجارية. كان لبنان بالنسبة إليهم جزءاً من مسألة تجارية. وما حصل في ما بعد أن الفرنسيين حينما جاؤوا إلى المنطقة وجدوا المشروع فتبنوه. وتاريخ لبنان في هذا السياق فضيحة أو جرصة. وكل كلام آخر عن نشوء لبنان مجرد مبالغات وأوهام» (المصدر السابق نفسه). وكان والده يقول له: «لا شيء أحب على قلوب المسيحيين في البلد من نكاية المسلمين والعكس بالعكس. فالمسلمون في لبنان يطالبون بوحدة لا يريدونها، لا مع سوريا ولا مع البلاد العربية مجتمعة. وما الدافع لمطالبتهم بالوحدة إلا نكاية بالمسيحيين» («طائر على سنديانة»، ص 112). وقال له راهب ماروني في بكركي: «لا تصدق أن الموارنة أحفاد الفينيقيين. نحن الموارنة أقحاح العرب، وأين منا المسلمون في لبنان وسوريا الذين اختلط دمهم بدم الأتراك والأكراد والأرناؤوط والبشناق وغيرهم من تركة بني عثمان؟ نقول عن أنفسنا فينيقيين لإغاظة المسلمين الذين يعتبرون أنفسهم القيمين على العروبة في بلادنا» (المصدر السابق نفسه، ص 212).

[ [ [

من طرائف أيامه انه تعرض لتهديد إحدى المجموعات الأرمنية القومية لأنه كان يدرّس التاريخ العثماني في الجامعة الأميركية، لكنه لم يلتفت لهذه المراهقة السياسية، وبقي مثل سنديانة وعرية باسقة: ناعمة سطوح أوراقها، جارحة أطرافها. ولعل كتابه المقبل عن رياض الصلح سيجرّح بالروايات التهليلية الرائجة عن هذا الرجل، وسيثير سجالات ونقاشات وزوابع فكرية شتى... وهذه هي بالتحديد مهمة المؤرخ الصارم والمفكر النقدي والناقد الثاقب والمبدع الألمعي. وهذه الصفات قلما اجتمعت لأحد مثلما اجتمعت في كمال الصليبي.

صقر أبو فخر - السفير 20/11/2010

0 تعليقات::

إرسال تعليق